تَأْوِيلُهُ أَقْرَبُ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُسَافِرِ يُقْدِمُ لَيْلًا، (قُلْتُ) : وَأَقْرَبُ مِنْ تَأْوِيلِ مَنْ تَسَحَّرَ قُرْبَ الْفَجْرِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ فِي وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِ تَأْوِيلَيْنِ: وَهُمَا قَوْلَانِ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ:
فَابْنُ الْقَاسِمِ يَقُولُ بِالْوُجُوبِ، قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ.
وَأَشْهَبُ يَقُولُ بِالسُّقُوطِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ.
قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَالْمَشْهُورُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ. وَقَالَ أَشْهَبُ: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَهُمَا خِلَافٌ فِي حَالِ هَلْ هُوَ تَأْوِيلٌ قَرِيبٌ أَوْ بَعِيدٌ، وَجَعَلَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُ قَوْلَ أَشْهَبَ خِلَافًا، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ يُونُسَ، وَنَقَلَ أَبُو الْحَسَنِ عَنِ الشُّيُوخِ: أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ تَقْيِيدًا، انْتَهَى.
وَذِكْرَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا تَقَدَّمَ التَّأْوِيلَيْنِ، وَجَزَمَ هُنَا بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَأَنَّهُ مِنَ التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ، فَكَأَنَّهُ تَرَجَّحَ عِنْدَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: (أَوْ لِحُمَّى ثُمَّ حُمَّ، أَوْ لِحَيْضٍ ثُمَّ حَصَلَ) ش: يَعْنِي أَنَّ مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ أَنْ تَأْتِيَهُ الْحُمَّى فِي يَوْمٍ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ بَعْدَ يَوْمَيْنِ، فَأَصْبَحَ فِي يَوْمِ الْحُمَّى مُفْطِرًا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَهُ الْحُمَّى - يُرِيدُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الصَّوْمِ إِذَا لَمْ تَأْتِهِ الْحُمَّى - ثُمَّ جَاءَتْهُ الْحُمَّى فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ لِأَنَّهُ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَنِدٌ لِسَبَبٍ لَمْ يُوجَدْ بَعْدُ.
وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ، إِذَا كَانَتْ مُعْتَادَةً أَنْ يَأْتِيَهَا الْحَيْضُ فِي يَوْمٍ مِنَ الشَّهْرِ، فَأَصْبَحَتْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مُفْطِرَةً قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهَا الْحَيْضُ، ثُمَّ جَاءَهَا الْحَيْضُ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ، فَعَلَيْهَا الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ كَالْمَسْأَلَةِ الَّتِي قَبِلَهَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَا كَفَّارَةَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ، وَرَآهُ مِنَ التَّأْوِيلِ الْقَرِيبِ.
ص: (أَوْ حِجَامَةٍ) ش: حَمَلَهُ الشَّارِحُ عَلَى أَنَّ مُرَادَهُ مَنْ احْتَجَمَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَظَنَّ أَنَّ صَوْمَهُ قَدْ بَطَلَ فَأَفْطَرَ، فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ الْكَفَّارَةِ.
ثُمَّ اعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ.
زَادَ فِي الْكَبِيرِ: فَذَكَرَ عَنِ النَّوَادِرِ مَا نَصُّهُ: قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: كُلُّ مُتَأَوِّلٍ فِي الْفِطْرِ فَلَا يُكَفِّرُ إِلَّا فِي التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ، مِثْلُ أَنْ يَغْتَابَ أَوْ يَحْتَجَمَ، فَتَأَوَّلَ أَنَّهُ أَفْطَرَ لِذَلِكَ.
ثُمَّ قَالَ: وَمِنَ الْعَتَبِيَّةِ: قَالَ عِيسَى عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِيمَنِ احْتَجَمَ فِي رَمَضَانَ فَتَأَوَّلَ: إِنْ لَهُ الْفِطْرَ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الْقَضَاءُ، وَقَالَ أَصْبُغُ: هَذَا تَأْوِيلٌ بَعِيدٌ، انْتَهَى كَلَامُ النَّوَادِرِ.
ثُمَّ قَالَ الشَّارِحُ: فَانْظُرْ كَيْفَ جَعَلَ مَسْأَلَةَ الْحِجَامَةِ مِنَ التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، اللَّهُمَّ إِلَّا أَنْ تُحْمَلَ مَسْأَلَةُ ابْنِ حَبِيبٍ عَلَى فَاعِلِ الْحِجَامَةِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ لَفْظِهِ، وَمَسْأَلَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَلَى الْمُحْتَجِمِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ، إِنْ ظَهَرَ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، انْتَهَى.
(قُلْتُ) : مَا ذَكَرَهُ عَنِ النَّوَادِرِ هُوَ كَذَلِكَ، وَالِاحْتِمَالُ الَّذِي أَرَادَ الْجَمْعَ بِهِ بَعِيدٌ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلَا يَظْهَرُ أَنَّ بَيْنَ تَأْوِيلِ الْحَاجِمِ وَالْمُحْتَجِمِ الْإِفْطَارَ فَرْقًا؛ لِأَنَّ مُسْتَنَدَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي تَأْوِيلِ الْإِفْطَارِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمُحْتَجِمُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مُعَلَّقًا عَنِ الْحَسَنِ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مَرْفُوعًا، وَرَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ.
وَأَمَا ثَانِيًا: فَقَدْ نَقَلَ ابْنُ يُونُسَ وَاللَّخْمِيُّ وَأَبُو الْحَسَنِ الصَّغِيرُ كَلَامَ ابْنِ حَبِيبٍ بِلَفْظِ: يَحْتَجِمُ- وَجَعَلُوهُ خِلَافَ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَكَذَلِكَ الْمُصَنَّفُ فِي التَّوْضِيحِ، وَابْنُ عَرَفَةَ، وَغَيْرُهمَا مِنَ الشُّيُوخِ فَرَضُوا الْمَسْأَلَةَ فِيمَنِ احْتَجَمَ، وَجَعَلُوا قَوْلَ ابْنِ حَبِيبٍ خِلَافَ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَلَمَّا ذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ فِي رَسْمِ سَلَفٍ مِنْ سَمَاعِ عِيسَى كَلَامَ ابْنِ الْقَاسِمِ الْمُتَقَدِّمَ، قَالَ فِي شَرْحِهِ: وَأَوْجَبَ عَلَيْهِ ابْنُ حَبِيبٍ فِي الْوَاضِحَةِ الْكَفَّارَةَ، وَرَآهُ مِنَ التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ، انْتَهَى.
وَإِذَا كَانَ ابْنُ حَبِيبٍ يَقُولُ بِالْكَفَّارَةِ فِي الْمُحْتَجِمِ إِذَا تَأَوَّلَ، فَالْحَاجِمُ مَثَّلُهُ، أَوْ أَحْرَى بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ.
وَلَفْظُ ابْنِ حَبِيبٍ فِي مُخْتَصَرِ