الْوَاضِحَةِ لِفَضْلِ بْنِ مَسْلَمَةَ - صَالِحٌ لِأَنَّ يُحْمَلَ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا أَوْ عَلَيْهِمَا جَمِيعًا؛ فَإِنَّهُ قَالَ: وَكَذَلِكَ الَّذِي يَتَأَوَّلُ الْإِفْطَارَ مَعَ الْحِجَامَةِ فَيُفْطِرُ، فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، انْتَهَى.
فَتَحَصَّلَ مِنْ هَذَا: أَنَّ مَسْأَلَةَ الْمُحْتَجِمِ فِيهَا قَوْلَانِ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ حَبِيبٍ، كَمَا حَكَاهُ أَهْلُ الْمَذْهَبِ.
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْحَاجِمِ فَلَيْسَ فِيهَا إِلَّا مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ النَّوَادِرِ الَّذِي نَقَلَهُ عَنِ ابْنِ حَبِيبٍ، وَكَوْنُهَا مُسَاوِيَةً لِمَسْأَلَةِ الْمُحْتَجِمِ أَوْ أَحْرَى بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ، وَأَمَّا مَا نَقَلُوهُ عَنِ ابْنِ الْقَاسِمِ، فَلَيْسَ فِيهِ تَعَرُّضٌ لِنَفْيِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا، إِلَّا أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ بِسُقُوطِ الْكَفَّارَةِ فِيهَا أَيْضًا لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ قَوْلَهُ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ أَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْمُصَنَّفَ فِي التَّوْضِيحِ قَالَا: إِنَّ التَّأْوِيلَ الْقَرِيبَ هُوَ مَا كَانَ مُسْتَنِدًا لِسَبَبٍ مَوْجُودٍ، وَالتَّأْوِيلَ الْبَعِيدَ مَا كَانَ مُسْتَنِدًا لِسَبَبٍ غَيْرِ مَوْجُودٍ، كَمَسْأَلَتِيِ الْحُمَّى وَالْحَيْضِ، وَمَثَلُهُ أَيْضًا يُقَالُ فِي مَسْأَلَةِ الْغِيبَةِ - أَعْنِي مَنِ اغْتَابَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ فَظَنَّ أَنَّ ذَلِكَ يُبْطِلُ صَوْمَهُ فَأَفْطَرَ لِذَلِكَ - وَلَكِنِّي لَمْ أَرَ فِيهَا إِلَّا قَوْلَ ابْنِ حَبِيبٍ بِوُجُوبِ الْكَفَّارَةِ.
(تَنْبِيهَاتٌ) :
الْأَوَّلُ: جَزَمَ الْبِسَاطِيُّ بِحَمْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّارِحُ، فَقَالَ: قَوْلُهُ: (أَوْ حِجَامَةٍ) يَعْنِي: مَنْ حَجَّمَ غَيْرَهُ، وَأَمَّا مَنِ احْتَجَمَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ.
قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا الْمُوجِبُ لِهَذَا الْمُحْتَمَلِ- قُلْتُ: إِذَا اطَّلَعْتَ عَلَى الرِّوَايَاتِ عَلِمْتَ وَجْهَ ذَلِكَ، ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ النَّوَادِرِ، ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا يُوجِبُ الْحَمْلَ عَلَى مَا حُمِلَ.
ثُمَّ قَالَ فَإِنْ قُلْتَ: لَعَلَّ الْمَشْهُورَ مَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَأَنَّ كَلَامَهُ عَامٌّ فِيمَنْ حَجَّمَ أَوِ احْتَجَمَ، أَوْ خَاصٌّ بِمَنِ احْتَجَمَ وَتَأَوَّلَ كَلَامَهُ- قُلْتُ: هُوَ مُحْتَمَلٌ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي، لَكِنْ فِي تَأْوِيلِ حَجَمَ بِاحْتَجَمَ بُعْدٌ، انْتَهَى.
(قُلْتُ) : وَقَدْ تَقَدَّمَتْ نُصُوصُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ كَلَامَ ابْنِ حَبِيبٍ وَكَلَامَ الْمُصَنِّفِ عَامٌّ فِيمَنْ حَجَّمَ غَيْرَهُ أَوِ احْتَجَمَ، وَأَنَّ ابْنَ الْقَاسِمِ يُخَالِفُ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ الرَّاجِحُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الثَّانِي: تَقَدَّمَ أَنَّ إِفْسَادَ الصَّوْمِ بِالْغِيبَةِ حُكِيَ عَنْ سُفْيَانَ وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَأَمَّا الْحِجَامَةُ فَحَكَى صَاحِبُ الطِّرَازِ عَنِ ابْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ إِسْحَاقَ أَنَّهُمَا قَالَا: يُفْطِرُ الْحَاجِمُ وَالْمَحْجُومُ، وَقَالَ: وَعَنِ ابْنِ حَنْبَلٍ رِوَايَةٌ أَنَّ فِيهِ الْكَفَّارَةَ، قَالَ: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، وَاحْتَجُّوا بِالْحَدِيثِ السَّابِقِ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ.
الثَّالِثُ: أَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ بِوُجُوهٍ: إِمَّا أَنَّهُ مَنْسُوخٌ كَمَا جَزَمَ بِهِ الشَّافِعِيُّ. أَوْ بِأَنَّ مَعْنَاهُ تَعَرَّضَ لِلْإِفْطَارِ، أَمَّا الْمَحْجُومُ فَلِلضَّعْفِ، وَأَمَّا الْحَاجِمُ فَلِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ مِنْ أَنْ يَصِلَ إِلَى جَوْفِهِ شَيْءٌ بِالْمَصِّ. أَوْ بِأَنَّ مَعْنَاهُ نُقْصَانُ الْأَجْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الرَّابِعُ: مِنَ التَّأْوِيلِ الْبَعِيدِ مَسْأَلَةُ الصِّيَامِ فِي السَّفَرِ مَنْ بَيَّتَ الصِّيَامَ ثُمَّ أَفْطَرَ مُتَأَوِّلًا، فَإِنَّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةَ عَلَى مَذْهَبِ الْمُدَوَّنَةِ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، وَسَوَاءٌ أَفَطَرَ فِي السَّفَرِ أَوْ بَعْدَ دُخُولِهِ إِلَى الْحَضَرِ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
ص: (وَلَزِمَ مَعَهَا الْقَضَاءُ إِنْ كَانَتْ لَهُ) ش: يَعْنِي أَنَّ كُلَّ مَنْ لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ يَلْزَمُهُ مَعَهَا الْقَضَاءُ، إِذَا كَانَتِ الْكَفَّارَةُ لَهُ - أَيْ لِلْمُكَفِّرِ - وَاحْتَرَزَ بِذَلِكَ مِمَّا إِذَا لَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ عَنْ غَيْرِهِ، فَإِنَّ الْقَضَاءَ عَنِ الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ الصَّوْمَ لَا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ. وَعَلَى هَذَا حَمَلَ الشَّارِحُ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي الصَّغِيرِ، وَهُوَ الصَّوَابُ، وَجَعَلَ فِي الْكَبِيرِ وَالْوَسَطِ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: لَهُ عَائِدًا عَلَى رَمَضَانَ، وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: (وَالْقَضَاءُ فِي التَّطَوُّعِ بِمُوجِبِهَا) ش: فَلَا يَفْسُدُ مَعَ الْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ إِلَّا الْفَرْضُ، وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِ الْإِرْشَادِ، انْتَهَى.
(تَنْبِيهٌ) : قَالَ الشَّارِحُ فِي الْكَبِيرِ: وَفِيمَا قَالَهُ الْمُصَنَّفُ نَظَرٌ. فَإِنْ أَفْطَرَ فِي تَطَوُّعِهِ نَاسِيًا فَظَنَّ أَنَّ صَوْمَهُ قَدْ فَسَدَ فَأَفْطَرَ ثَانِيًا، فَإِنَّهُ يَقْضِيهِ، هَكَذَا قَالُوا، انْتَهَى.
وَفِيمَا قَالَهُ نَظَرٌ؛ فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا ذَكَرُوا الْقَضَاءَ فِيمَا إِذَا أَفْطَرَ ثَانِيًا مُتَعَمَّدًا، وَأَمَّا الْمُتَأَوِّلُ فَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ نَاجِي الْمُتَقَدِّمِ: أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. نَعَمْ يُرَدُّ عَلَى الْمُصَنَّفِ مَسْأَلَةٌ، وَهِيَ مَنْ أَصْبَحَ صَائِمًا فِي الْحَضَرِ ثُمَّ سَافَرَ فَأَفْطَرَ لِسَفَرِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنَّهُ سَيَأْتِي أَنْ لَا كَفَّارَةَ