الرَّاوِي الْفِعْلَ إِلَى النَّهْيِ، ثُمَّ إِنْ صَحَّ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الشَّافِعِيُّ فِي الْقَدِيمِ، قَالَ: أَكْرَهُ أَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ صَوْمَ شَهْرٍ يُكْمِلُهُ مِنْ بَيْنِ الشُّهُورِ كَمَا يُكْمِلُ رَمَضَانَ، قَالَ: وَكَذَلِكَ أَكْرَهُ أَنْ يَتَّخِذَ الرَّجُلُ يَوْمًا مِنْ بَيْنِ الْأَيَّامِ، وَإِنَّمَا كَرِهْتُ ذَلِكَ؛ لِئَلَّا يَتَأَسَّى جَاهِلٌ فَيَظُنُّ أَنَّ ذَلِكَ وَاجِب.

قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: وَالْحَدِيثُ أَشَارَ إِلَيْهِ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَخْرَجَهُ مِنْ طَرِيقِ عَنَانِ بْنِ حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ «رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَصُومُ حَتَّى نَقُولَ لَا يُفْطِرُ، وَيُفْطِرُ حَتَّى نَقُولَ لَا يَصُومُ» .

رَوَيْنَاهُ فِي كِتَابِ أَخْبَارِ مَكَّةَ لِلْفَاكِهِيِّ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا تَتَّخِذُوا رَجَبًا عِيدًا تَرَوْنَهُ حَتْمًا مِثْلَ رَمَضَانَ إِذَا أَفْطَرْتُمْ مِنْهُ صُمْتُمْ وَقَضَيْتُمُوهُ.

وَقَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَنْهَى عَنْ صِيَامِ رَجَبٍ كُلِّهِ لِئَلَّا يُتَّخِذَ عِيدًا، وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَمِثْلُ هَذَا مَا رَوَيْنَاهُ فِي مُسْنَدِ سَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ أَنَّ عُمَرَ كَانَ يَضْرِبُ أَيْدِيَ الرِّجَالِ فِي رَجَبٍ إِذَا رَفَعُوهَا عَنِ الطَّعَامِ حَتَّى يَضَعُوهَا فِيهِ، وَيَقُولُ: إِنَّمَا هُوَ مَوْسِمٌ، كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُعَظِّمُونَهُ. قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: فَهَذَا النَّهْيُ مُنْصَرِفٌ لِمَنْ يَصُومُهُ مُعَظِّمًا لِأَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، أَمَّا مَنْ صَامَهُ لِقَصْدِ الصَّوْمِ فِي الْجُمْلَةِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَجْعَلَهُ حَتْمًا، أَوْ يَخُصَّ مِنْهُ أَيَّامًا مُعِينَةً يُوَاظِبُ عَلَى صَوْمِهَا، أَوْ لَيَالِيَ مُعِينَةً يُوَاظِبُ عَلَى قِيَامِهَا، بِحَيْثُ يَظُنُّ أَنَّهَا سُنِّةٌ، فَهَذَا مِنْ فِعْلِهِ مَعَ السَّلَامَةِ مِمَّا اسْتُثْنِيَ فَلَا بَأْسَ بِهِ، فَإِنْ خَصَّ ذَلِكَ أَوْ جَعَلَهُ حَتْمًا فَهَذَا مَحْظُورٌ.

وَهُوَ فِي الْمَنْعِ بِمَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَخُصُّوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ بِصِيَامٍ وَلَا لَيْلَتَهَا بِقِيَامٍ» . رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَإِنْ صَامَهُ مُعْتَقِدًا أَنَّ صِيَامَهُ أَوْ صِيَامَ شَيْءٍ مِنْهُ أَفْضَلُ مِنْ صِيَامِ غَيْرِهِ فَفِي هَذَا نَظَرٌ.

وَيُقَوِّي جَانِبَ الْمَنْعِ مَا فِي الصَّحِيحِ «عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَحَرَّى صَوْمَ يَوْمٍ يُفَضِّلُهُ عَلَى غَيْرِهِ إِلَّا يَوْمَ عَاشُورَاءَ وَهَذَا الشَّهْرَ - يَعْنِي شَهْرَ رَمَضَانَ -» . وَعَنْ أَزْهَرَ بْنِ سَعِيدٍ، عَنْ أُمِّهِ، أَنَّهَا كَانَتْ دَخَلَتْ عَلَى عَائِشَةَ فَذَكَرَتْ لَهَا أَنَّهَا تَصُومُ رَجَبًا، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: صُوْمِي شَعْبَانَ فَإِنَّ فِيهِ الْفَضْلَ، فَقَدَ «ذُكِرَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُنَاسٌ يَصُومُونَ رَجَبًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَيْنَ هُمْ مِنْ صِيَامِ شَعْبَانَ» ! رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَقَالَ بَعْدَهُ: «قَالَ زَيْدٌ: وَكَانَ أَكْثَرَ صِيَامِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ رَمَضَانَ شَعْبَانُ» وَيُحْتَمَلُ أَنَّ تَحَرِّيَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صِيَامَ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِعَيْنِهِ كَانَ لِغَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ صَدَرَ أَنَّ صَوْمَهُ كَانَ مُفْتَرَضًا قَبْلَ رَمَضَانَ، وَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا فَعَلَ شَيْئًا مِنَ الطَّاعَاتِ وَاظَبَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا حَدِيثُ «عَائِشَةَ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَكْمَلَ شَهْرًا قَطُّ إِلَّا رَمَضَانَ، وَمَا رَأَيْتُ أَكْثَرَ مِنْهُ صِيَامًا فِي شَعْبَانَ» ، فَظَاهِرُهُ فَضِيلَةُ الصَّوْمِ فِي شَعْبَانَ عَلَى غَيْرِهِ.

لَكِنْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رُبَّمَا حَصَلَ لَهُ الشُّغْلُ عَنْ صِيَامِ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ لِسِفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ فَيَقْضِيهَا فِي شَعْبَانَ، فَلِذَلِكَ كَانَ يَصُومُ فِي شَعْبَانَ أَكْثَرَ مِمَّا يَصُومُ فِي غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ لِصِيَامِ شَعْبَانَ فَضِيلَةً عَلَى صِيَامِ غَيْرِهِ.

وَمِمَّا يُقَوِّي هَذَا التَّأْوِيلَ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَغَيْرُهُ مِنْ حَدِيثِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِذَا دَخَلَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَلَا تَصُومُوا وَفِي رِوَايَةٍ: فَلَا يَصُومَنَّ أَحَدٌ» وَفِي رِوَايَةٍ: «إِذَا دَخَلَ النِّصْفُ مِنْ شَعْبَانَ فَأَمْسِكُوا عَنِ الصِّيَامِ» وَقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنَّ مَعْنى هَذَا النَّهْي لِلْمُبَالَغَةِ فِي الِاحْتِيَاطِ لِئَلَّا يَحْتَاطَ لِرَمَضَانَ مَا لَيْسَ لِغَيْرِهِ، وَيَكُونَ هَذَا بِمَعْنَى نَهْيِهِ عَنْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَحَدٌ رَمَضَانَ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ.

قَالَ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ فِي كِتَابِ الْحَوَادِثُ وَالْبِدَعُ: يُكْرَهُ صَوْمُ رَجَبٍ، وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ:

أَحَدُهَا: أَنَّهُ إِذَا خَصَّهُ الْمُسْلِمُونَ بِالصَّوْمِ فِي كُلِّ عَامٍ حَسِبَ الْعَوَامُّ أَنَّهُ فَرْضٌ كَشَهْرِ رَمَضَانَ، وَإِمَّا سُنَّةٌ ثَابِتَةٌ كَالسُّنَنِ الثَّابِتَةِ، وَإِمَّا لِأَنَّ الصَّوْمَ فِيهِ مَخْصُوصٌ بِفَضْلِ ثَوَابٍ عَلَى ثَوَابِ بَاقِي الشُّهُورِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ لَبَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015