مُفْطِرًا، قَالَ فِي الْمُتَيْطِيَةِ: وَيُكْرَهُ لِلْحَاجِّ أَنْ يَصُومَ بِمِنًى وَعَرَفَةَ مُتَطَوِّعًا، وَهُوَ حَسَنٌ لِغَيْرِ الْحَاجِّ؛ لِأَنَّ بِالْحَاجِّ حَاجَةً شَدِيدَةً إِلَى تَقْوِيَةِ جِسْمِهِ لِصُعُوبَةِ الْعَمَلِ وَكَثْرَتِهِ فِي ذَلِكَ الْمَوْقِفِ، وَرُبَّمَا ضَعُفَ بِالصَّوْمِ فَقَصَّرَ عَنْ بَعْضِهِ، فَلِذَلِكَ كَرِهَ، انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ فِي الْمُتَيْطِيَةِ بِمِنًى يَعْنِي فِي يَوْمِ التَّرْوِيَةِ، يُسَمَّى عِنْدَ الْمَغَارِبَةِ يَوْمَ مِنًى، وَصَوْمُهُ مُسْتَحَبٌّ كَمَا قَالَهُ فِي الرِّسَالَةِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّهُ قَالَ ابْنُ يُونُسَ وَصَاحِبُ الذَّخِيرَةِ: وَرَدَ أَنَّهُ كَصِيَامِ سَنَةٍ، وَنَحْوَهُ فِي الْمُقْدِمَاتِ قَالَ: وَصِيَامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَمِنًى وَعَرَفَةَ مُرَغَّبٌ فِيهِ، وَرُوِيَ أَنَّ صِيَامَ يَوْمِ عَرَفَةَ كَصِيَامِ سَنَتَيْنِ، وَأَنَّ صَوْمَ يَوْمِ مِنًى كَصَوْمِ سَنَةٍ، وَأَنَّ صَوْمَ يَوْمٍ مِنْ سَائِرِ أَيَّامِ الْعَشْرِ كَصِيَامِ شَهْرٍ، انْتَهَى.
وَقَالَ فِي التَّوْضِيحِ: رَوَىَ ابْنُ حَبِيبٍ فِي وَاضِحَتِهِ، عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «صَوْمُ يَوْمِ التَّرْوِيَةِ كَصَوْمِ سَنَةٍ» وَهُوَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ، وَأَمَّا غَيْرُ التَّرْوِيَةِ مِنْ أَيَّامِ مِنًى فَالْمَطْلُوعُ فِيهِ الْإِفْطَارُ كَمَا سَيَأْتِي.
ص: (وَعَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ) ش: يَعْنِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ صِيَامُ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ أَنَّ صِيَامَ يَوْمٍ مِنْهَا كَصِيَامٍ شَهْرٍ، هَكَذَا قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ، وَقَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: رُوِيَ أَنَّ صِيَامَ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا يَعْدِلُ سَنَةً، قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: وَقِيلَ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] أَنَّهَا عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، وَأَنَّ الشَّفْعَ يَوْمُ النَّحْرِ، وَأَنَّ الْوِتْرَ يَوْمُ عَرَفَةَ. وَفِي قَوْلِهِ: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَالْمَشْهُودَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَالْمُرَادُ بِعَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ التِّسْعَةُ الْأَيَّامِ مِنْ أَوَّلِ الشَّهْرِ، قَالَهُ فِي الشَّرْحِ الْكَبِيرِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، إِذْ لَا يُصَامُ يَوْمُ النَّحْرِ، وَعَطْفُهُ عَلَى يَوْمِ عَرَفَةَ مِنْ عَطْفِ الْكُلِّ عَلَى الْجُزْءِ، عَكْسُ مَا فَعَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي قَوَاعِدِهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الصِّيَامِ الْمُسْتَحَبِّ وَالْعَشْرِ الْأُوَلِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ وَصَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ: قَالَ الْقَبَّابُ: هُوَ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ؛ لِأَنَّهُ آخِرُهَا وَهُوَ آخَرُ مَا يُصَامُ مِنْهَا، وَمُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: صَوْمُ يَوْمِ الْعَشْرِ: التِّسْعُ خَاصَّةً، وَهُوَ مُعْظَمُ الْعَشْرِ، وَيَجُوزُ إِطْلَاقُ الْكُلِّ، وَالْمُرَادُ الْبَعْضُ، انْتَهَى.
وَهَذَا لِغَيْرِ الْحَاجِّ، وَأَمَّا الْحَاجُّ فَيَصُومُ سَبْعَةً فَقَطْ؛ لِأَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْمُتَيْطِيِّ أَنَّهُ يُكْرَهُ الصَّوْمُ بِعَرَفَةَ وَمِنًى لِلْحَاجِّ، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِمِنًى يَوْمُ التَّرْوِيَةِ.
(تَنْبِيهٌ) : قَالَ فِي الْمَوَاهِبِ اللَّدُنِّيَّةِ: عَنْ هِبَةَ بْنِ خَالِدٍ، عَنِ امْرَأَتِهِ، عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ تِسْعَ ذِي الْحِجَّةِ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، «عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَائِمًا فِي الْعَشْرِ قَطُّ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَهَذَا يُوهِمُ كَرَاهَةَ صَوْمِ الْعَشْرِ وَلَيْسَ فِيهَا كَرَاهَةٌ، بَلْ هِيَ مُسْتَحَبَّةٌ اسْتِحْبَابًا شَدِيدًا لَا سِيَّمَا التَّاسِعُ مِنْهَا وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَقَدْ ثَبُتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهَا أَفْضَلُ مِنْهُ فِي هَذِهِ» يَعْنِي الْعَشْرَ الْأُوَلَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، ثُمَّ قَالَ: وَقَدْ ثَبُتَتِ الْفَضِيلَةُ لِأَيَّامِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ عَلَى غَيْرِهَا مِنْ أَيَّامِ السَّنَةِ، وَتَظْهَرُ فَضِيلَةُ ذَلِكَ فِيمَنْ نَذَرَ الصِّيَامَ أَوْ عَمَلًا مِنَ الْأَعْمَالِ بِأَفْضَلِ الْأَيَّامِ، فَلَوْ أَفْرَدَ يَوْمًا مِنْهَا تَعَيَّنَ يَوْمُ عَرَفَةَ لِأَنَّهُ عَلَى الصَّحِيحِ أَفْضَلُ أَيَّامِ الْعَشْرِ الْمَذْكُورِ، ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّبَبَ فِي امْتِيَازِ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ إِمْكَانُ اجْتِمَاعِ أُمَّهَاتِ الْعِبَادَةِ فِيهِ، وَهِيَ: الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالصَّدَقَةُ وَالْحَجُّ، وَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا، وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ بْنُ النَّقَّاشِ، فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّمَا أَفْضَلُ، عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ أَوِ الْعَشْرُ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَيَّامَ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ أَفْضَلُ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْيَوْمِ الَّذِي مَا رُؤِيَ الشَّيْطَانُ فِي يَوْمٍ غَيْرَ يَوْمِ بَدْرٍ أَدْحَرُ وَلَا أَغْيَظُ مِنْهُ فِيهِ وَهُوَ يَوْمُ عَرَفَةَ، وَلِكَوْنِهِ يُكَفَّرُ بِصِيَامِهِ سَنَتَيْنِ، وَلِاشْتِمَالِهِ عَلَى أَعْظَمِ الْأَيَّامِ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ يَوْمُ النَّحْرِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، وَلَيَالِي عَشْرِ رَمَضَانَ الْأَخِيرِ أَفْضَلُ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مَنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَمَنْ تَأَمَّلَ هَذَا الْجَوَابَ وَجَدَهُ شَافِيًا كَافِيًا، أَشَارَ إِلَيْهِ الْفَاضِلُ الْمُفَضَّلُ بِقَوْلِهِ: مَا مِنْ أَيَّامٍ، دُونَ أَنْ يَقُولَ مَا مِنْ عَشْرٍ، وَنَحْوَهُ، وَمَنْ أَجَابَ بِغَيْرِ هَذَا لَمْ يَدُلَّ بِحُجَّةٍ صَحِيحَةٍ صَرِيحَةٍ، انْتَهَى.