(قُلْتُ) : وَلَا يُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ لَيَالِيَ عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ لَا فَضِيلَةَ فِيهَا، فَإِنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْإِقْسَامَ بِهَا يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهَا بِمَزِيدِ فَضْلٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

ص: (وَعَاشُورَاءُ) ش: يَعْنِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ صِيَامُ عَاشُورَاءَ، لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «صِيَامُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ أَحْتَسِبُ عَلَى اللَّهِ أَنْ يُكَفِّرَ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ» ، رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَيُقَالُ: فِيهِ تِيبَ عَلَى آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَاسْتَوَتِ السَّفِينَةُ عَلَى الْجُودِيِّ، وَفُلِقَ الْبَحْرُ لِمُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَأُغْرِقَ فِرْعَوْنُ، وَوَلَدُ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَخَرَجَ يُونُسُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ جَوْفِ الْحُوتِ، وَخَرَجَ يُوسُفُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنَ الْجُبِّ، وَتَابَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ عَلَى قَوْمِ يُونُسَ، وَفِيهِ تُكْسَى الْكَعْبَةُ كُلَّ عَامٍ.

(تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَهُوَ عَاشِرُ الْمُحَرَّمِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: التَّاسِعُ لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ إِظْمَاءِ الْإِبِلِ، وَعَادَتُهُمْ يُسَمُّونَ الثَّالِثَ رُبْعًا وَالرَّابِعَ خَمْسًا.

(قُلْتُ) : ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي الْمُقَدِّمَاتِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي الْمَذْهَبِ، وَنَصُّهُ: وَاخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: الْعَاشِرُ، وَقِيلَ: التَّاسِعُ، فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَحَرَّى صَامَهُمَا، انْتَهَى.

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: إِذَا رَأَيْتَ هِلَالَ الْمُحَرَّمِ فَاعْدُدْ وَاصْبَحْ يَوْمَ التَّاسِعِ صَائِمًا، فَقِيلَ لَهُ: أَهَكَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُ؟ قَالَ: نَعَمْ. لَكِنْ يُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ: «لَئِنْ بَقِيتَ إِلَى قَابِلٍ لِأَصُومَنَّ التَّاسِعَ فَلَمْ يَأْتِ الْعَامُ الْمُقْبِلُ حَتَّى تُوُفِّيَ» قَالَ فِي الْإِكْمَالِ: قِيلَ فِي عَاشُورَاءَ: إِنَّهُ التَّاسِعُ، وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَكْثَرُ: هُوَ الْعَاشِرُ، وَهُوَ الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا، وَقَوْلُهُ: «لَئِنْ بَقِيتَ لِأَصُومَنَّ التَّاسِعَ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَصُومُ الْعَاشِرَ، وَهَذَا لَمْ يَصُمْهُ، انْتَهَى.

وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِ الْقُرْطُبِيَّةِ: اخْتُلِفَ فِيهِ، فَقِيلَ: التَّاسِعُ، وَقِيل: الْعَاشِرُ، وَاسْتَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَوْمًا قَبْلَهُ وَيَوْمًا بَعْدَهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ غَرِيبٌ لَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

وَقَالَ الشَّيْخُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: وَيُسْتَحَبُّ صِيَامُ التَّاسِعِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَكَذَلِكَ الْحَادِي عَشَرَ احْتِيَاطًا لَعَلَّهُ نَقَصَ الشَّهْرُ، وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا: قِيلَ: سُمِّيَ عَاشُورَاءُ؛ لِأَنَّ عَشْرَةً مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَكْرَمَهُمُ اللَّهُ فِيهِ بِعَشْرِ كَرَامَاتٍ.

الثَّانِي: قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: أَفْضَلُ الْأَيَّامِ لِلصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَقَدْ كَانَ هُوَ الْفَرْضَ قَبْلَ رَمَضَانَ. قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ: انْظُرْ تَفْضِيلَهُ عَاشُورَاءَ عَلَى يَوْمِ عَرَفَةَ، وَقَدْ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَرَفَةَ تُكَفِّرُ السَّنَةَ الَّتِي قَبِلَهُ وَالَّتِي بَعْدَهُ، وَأَنَّ عَاشُورَاءَ تَكْفُرُ الَّتِي قَبِلَهُ، وَالتَّكْفِيرُ مَنُوطٌ بِالْأَفْضَلِيَّةِ، فَمَنِ ادَّعَى خِلَافَ ذَلِكَ فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ، انْتَهَى.

(قُلْتُ) : فَفِي كَلَامِهِ مَيْلٌ إِلَى تَفْضِيلِ يَوْمِ عَرَفَةَ وَهُوَ الظَّاهِرُ.

الثَّالِثُ: قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَإِنَّمَا كَانَ يَوْمُ عَرَفَةَ يُكَفِّرُ سُنَّتَيْنِ وَيَوْمُ عَاشُورَاءَ يُكَفِّرُ سَنَةً؛ لِأَنَّ يَوْمَ عَرَفَةَ يَوْمٌ مُحَمَّدِيٌّ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ يَوْمٌ مُوسَوِيٌّ.

الرَّابِعُ: قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُسْتَحَبُّ فِي يَوْمِ عَاشُورَاءَ التَّوْسِعَةُ عَلَى الْعِيَالِ، وَقَالَ فِي الْمَدْخَلِ: الْمَوْسِمُ الثَّالِثُ مِنَ الْمَوَاسِمِ الشَّرْعِيَّةِ يَوْمُ عَاشُورَاءَ، وَالتَّوْسِعَةُ فِيهِ عَلَى الْأَهْلِ وَالْأَقَارِبِ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ، وَزِيَادَةُ النَّفَقَةِ وَالصَّدَقَةِ مَنْدُوبٌ إِلَيْهَا، بِحَيْثُ لَا يَجْهَلُ ذَلِكَ. لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ التَّكَلُّفِ، وَأَنْ لَا يَصِيرَ ذَلِكَ سُنَّةً يُسْتَنُّ بِهَا لَا بُدَّ مِنْ فِعْلِهَا، فَإِنْ وَصْلَ إِلَى هَذَا الْحَدِّ لَا بُدَّ أَنْ يَفْعَلَهَا سِيَّمَا إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَمِمَّنْ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015