ثَلَاثِينَ، وَلَمْ يَرَ الْهِلَالَ، فَحَكَمَ الْحَاكِمُ الشَّافِعِيُّ بِالْفِطْرِ عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَهُمْ، فَهَلْ يَجُوزُ لِلْمَالِكِيِّ أَنْ يُفْطِرَ مَعَهُمْ وَلَوْ لَمْ يَرَ أَحَدٌ الْهِلَالَ؟ أَوْ يُخَالِفُهُمْ فِي الْفِطْرِ وَيُصْبِحُ صَائِمًا؟
وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ. وَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَيُقَالُ - لِمَنْ قَالَ: يُصَامُ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ -: أَرَأَيْتَ إِنْ أُغْمِيَ آخِرَ الشَّهْرِ كَيْفَ يَصْنَعُونَ أَيُفْطِرُونَ أَمْ يَصُومُونَ وَاحِدًا وَثَلَاثِينَ؟ فَإِنْ أَفْطَرُوا خَافُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْيَوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، انْتَهَى.
وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ، وَصُمْنَا بِحُكْمِ الْمُخَالِفِ، فَلَمَّا كَانَتْ لَيْلَةُ أَحَدَ وَثَلَاثِينَ لَمْ يَرَ النَّاسُ الْهِلَالَ بَعْدَ الْغُرُوبِ، فَلَمْ يَلْتَفِتِ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى ذَلِكَ وَكَبَّرُوا وَصَارَ الْعَامَّةُ يَسْأَلُونَ عَنِ الْفِطْرِ مَعَ عَدَمِ رُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَأَقُولُ لَهُمْ: قَالَ الشَّافِعِيَّةُ: يَجُوزُ الْفِطْرُ. وَعِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ لَا يَجُوزُ الْإِفْطَارُ. فَيَقُولُونَ: نَحْنُ لَا نَعْمَلُ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْمَالِكِيَّةِ، ثُمَّ لَطَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فَرُؤِيَ الْهِلَالُ حِينَ حَصَلَ ابْتِدَاءُ الظَّلَامِ.
ص: (وَرُؤْيَتُهُ نَهَارًا لِلْقَابِلَةِ) ش: يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا رُؤِيَ الْهِلَالُ نَهَارًا فَإِنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ بِهِ لِلَّيْلَةِ الْقَابِلَةِ، فَيَسْتَمِرُّ النَّاسُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ فِطْرٍ إِنَّ وَقَعَ ذَلِكَ فِي آخِرِ شَعْبَانَ، أَوْ صَوْمٍ إِنَّ وَقَعَ فِي آخِرِ رَمَضَانَ، وَسَوَاءٌ رُؤِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ أَوْ قَبْلَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ: إِنْ رُؤِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمَاضِيَةِ، فَيُمْسِكُونَ إِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي شَعْبَانَ، وَيُفْطِرُونَ إِنْ وَقَعَ فِي رَمَضَانَ، وَيُصَلُّونَ الْعِيدَ. رَوَاهُ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مَالِكٍ، وَقَالَ بِهِ هُوَ وَغَيْرُهُ. قَالَ: وَإِذَا رُؤِيَ بَعْدَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلْآتِيَةِ، سَوَاءٌ صُلِّيْتِ الظُّهْرُ أَمْ لَمْ تُصَلَّ.
(تَنْبِيهٌ) : فَإِذَا رُؤِيَ الْهِلَالُ نَهَارًا ثُمَّ لَمْ يُرَ بَعْدَ الْغُرُوبِ لِغَيْمٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ يَوْمِ ثَلَاثِينَ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ، فَلَا يُلْتَفَتُ حِينَئِذٍ إِلَى رُؤْيَتِهِ لَيْلًا لِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ، وَإِنْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ، فَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ أَصْحَابِنَا أَنَّ الْهِلَالَ يَثْبُتُ بِرُؤْيَتِهِ نَهَارًا، وَكَلَامُ الْقَرَافِيِّ فِي شَرَحِ الْجَلَّابِ كَالصَّرِيحِ فِي ذَلِكَ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: كَلَامُهُمْ إِنَّمَا هُوَ إِذَا وَقَعَ ذَلِكَ فِي يَوْمِ ثَلَاثِينَ بِدَلِيلِ اخْتِلَافِهِمْ فِي كَوْنِهِ لِلْقَابِلَةِ أَوْ لِلْمَاضِيَةِ، وَإِذَا وَقَعَ فِي يَوْمِ تِسْعَةٍ وَعِشْرِينَ فَلَا قَائِلَ بِأَنَّهُ لِلْمَاضِيَةِ؛ إِذْ لَا يَكُونُ الشَّهْرُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ، وَصَرَّحَ الشَّافِعِيَّةُ بِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَكْفِي عَنْ رُؤْيَتِهِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ، وَأَنَّهُ لَا أَثَرَ لِرُؤْيَتِهِ نَهَارًا. فَتَأَمَّلْهُ.
ثُمَّ رَأَيْتُ فِي مُخْتَصَرِ الْوَاضِحَةِ لِابْنِ حَبِيبٍ: أَنَّهُ لَا يُرَى فِي يَوْمِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ إِلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَنَصُّهُ: وَهُوَ يُرَى بَعْدَ الزَّوَالِ يَوْمَ ثَلَاثِينَ وَيَوْمَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، وَلَا يُرَى قَبْلَ الزَّوَالِ فِي يَوْمِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لِأَنَّهُ لِلْمَاضِيَةِ، وَلَا يَكُونُ هِلَالًا قَبْلَ تَمَامِ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ، وَإِذَا رُؤِيَ بِالْعَشِيِّ يَوْمَ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ فَإِنَّمَا أَهَلَّ سَاعَتَهُ، انْتَهَى.
وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُ ثَبَتَتْ رُؤْيَتُهُ بِذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يُرَ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: (وَإِنْ ثَبَتَ نَهَارًا أَمْسَكَ، وَإِلَّا كَفَرَ إِنِ انْتَهَكَ) ش: يَعْنِي إِذَا لَمْ يَثْبُتِ الْهِلَالُ لَيْلًا وَإِنَّمَا ثَبَتَ نَهَارًا فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عَلَى مَنْ أَكَلَ وَعَلَى مَنْ لَمْ يَأْكُلْ، وَإِنْ كَانَ صَوْمُهُ غَيْرَ صَحِيحٍ لِعَدَمِ النِّيَّةِ الْمُبَيَّتَةِ لِحُرْمَةِ رَمَضَانَ، وَيَجِبُ قَضَاءُ ذَلِكَ الْيَوْمِ. وَإِنْ بَيَّتَ الصَّوْمَ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ مِنْ رَمَضَانَ لِعَدَمِ الْجَزْمِ فَإِنْ أَكَلَ وَشَرِبَ أَوْ جَامَعَ بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِحُرْمَةِ ذَلِكَ وَانْتَهَكَ حُرْمَةَ الشَّهْرِ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ. وَحَكَى ابْنُ بَشِيرٍ وَابْنُ الْحَاجِبِ قَوْلًا بِعَدَمِ الْكَفَّارَةِ، وَأَنْكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَقَالَ: لَا أَعْرِفُهُ. وَإِنَ فَعَلَ ذَلِكَ غَيْرَ مُنْتَهِكٍ، بَلْ تَأَوَّلَ أَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَصِحَّ صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ جَازِ لَهُ الْفِطْرُ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلَمْ أَقِفْ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ. وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ. فَهَذَا مِنَ التَّأْوِيلِ الْقَرِيبِ فَيُضَمُّ إِلَى الْمَسَائِلِ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُصَنِّفُ مِنَ التَّأْوِيلِ الْقَرِيبِ بَعْدَ هَذَا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ص: (وَإِنْ غَيَّمَتْ وَلَمْ يُرَ فَصَبِيحَةُ يَوْمِ الشَّكِّ) ش: غَيَّمَتْ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ، يَعْنِي أَنَّهُ إِذَا كَانَتْ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً لَيْلَةَ ثَلَاثِينَ وَلَمْ تَثْبُتْ رُؤْيَةُ الْهِلَالِ فَصَبِيحَةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ هُوَ يَوْمُ الشَّكِّ الَّذِي وَرَدَ النَّهْيُ عَنْ صِيَامِهِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَكُنِ السَّمَاءُ مُغَيِّمَةً فَلَيْسَ ذَلِكَ بِيَوْمِ شَكٍّ، وَقَالَ الشَّافِعِيَّةُ: إِذَا أَطْبَقَ الْغَيْمُ فَلَيْسَ ذَلِكَ بِيَوْمِ شَكٍّ،