وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] فَالْمَجَازُ لَازِمٌ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ وَمَذْهَبُنَا أَقْرَبُهُمَا لِلْحَقِيقَةِ فَيَكُونُ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّهُ عَقَّبَ الْخَامِسَةَ بِخُرُوجِ الْإِمَامِ وَهُوَ لَا يَخْرُجُ بَعْدَ الْخَامِسَةِ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ وَإِلَّا لَوَقَعَتْ الصَّلَاةُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَإِذَا بَطَلَ أَحَدُ الْمَذْهَبَيْنِ تَعَيَّنَ الْآخَرُ؛ إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ وَتَقْسِيمُ السَّادِسَةِ لِصَاحِبِ الْمُنْتَقَى وَصَاحِبِ الِاسْتِذْكَارِ وَالْعَبْدِيِّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَصَاحِبِ الطِّرَازِ وَقَالَ اللَّخْمِيّ وَابْنُ بَشِيرٍ وَصَاحِبُ الْمُعْلِمِ وَابْنُ يُونُسَ وَجَمَاعَةٌ: التَّقْسِيمُ فِي السَّابِعَةِ وَالْمَوْجُودُ لِمَالِكٍ إنَّمَا هُوَ قَوْلُهُ أَرَى هَذِهِ السَّاعَاتِ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَمْ يُعَيِّنْ فَاخْتَلَفَ أَصْحَابُهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ لِأَنَّ حَدِيثَ مُسْلِمٍ «كُنَّا نَنْصَرِفُ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَالْجُدْرَانُ لَيْسَ لَهَا فَيْءٌ»
وَإِذَا كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَخْرُجُ فِي أَوَّلِ السَّابِعَةِ وَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ «فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» فَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ يَخْرُجُ فِي أَوَّلِ السَّابِعَةِ بَطَلَ الْحَدِيثُ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إنَّ تِلْكَ الْأَزْمِنَةَ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ؛ فَإِنَّ الْحَدِيثَ يَأْبَاهُ وَالْقَوَاعِدَ؛ لِأَنَّ الْبَدَنَةَ وَالْبَيْضَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُمَا مِنْ التَّعْجِيلِ وَالتَّأْخِيرِ وَتَحَمُّلِ الْمُكَلَّفِ مِنْ الْمَشَقَّةِ مَا يَقْتَضِي هَذَا التَّفْصِيلَ وَإِلَّا فَلَا مَعْنَى لِلْحَدِيثِ انْتَهَى.
وَمَا ذَكَرَهُ عَنْ صَاحِبِ الْمُنْتَقَى هُوَ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ وَنَصُّهُ: ذَهَبَ مَالِكٌ إلَى أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي سَاعَةٍ وَاحِدَةٍ وَأَنَّ هَذِهِ أَجْزَاءٌ مِنْ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ وَلَمْ يَرَ التَّبْكِيرَ لَهَا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَذَهَبَ ابْنُ حَبِيبٍ وَالشَّافِعِيُّ إلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي السَّاعَاتِ الْمَعْلُومَاتِ، وَأَنَّ أَفْضَلَ الْأَوْقَاتِ فِي ذَلِكَ أَوَّلُ سَاعَةِ النَّهَارِ.
وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّةِ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ أَنَّ السَّاعَةَ السَّادِسَةَ مِنْ النَّهَارِ لَمْ يَذْكُرْ فَضِيلَةَ مَنْ جَاءَ فِيهَا وَلَيْسَتْ بِوَقْتِ قُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَلَا بِوَقْتِ اسْتِمَاعِ الذِّكْرِ مِنْهُ وَالْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ تَرْتَفِعُ فَضِيلَةُ الرَّوَاحُ وَتَحْضُرُ الْمَلَائِكَةُ لِلذِّكْرِ وَأَنَّ ذَلِكَ مُتَّصِلٌ بِالسَّاعَةِ الْخَامِسَةِ وَهَذَا بَاطِلٌ بِاتِّفَاقٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ السَّاعَةَ الْخَامِسَةَ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ السَّاعَةَ السَّادِسَةَ تَصِلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الذِّكْرِ، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ إنَّمَا أُرِيدَ بِهِ أَجْزَاءٌ مِنْ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ وَتِلْكَ السَّاعَةُ يَصِحُّ تَجْزِئَتُهَا عَلَى خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ وَأَقَلَّ وَأَكْثَرَ وَدَلِيلٌ ثَانٍ أَنَّهُ «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: ثُمَّ رَاحَ» . وَالرَّوَاحُ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ نِصْفِ النَّهَارِ أَوْ مَا قَرُبَ مِنْ ذَلِكَ انْتَهَى.
وَاقْتَصَرَ الْجُزُولِيُّ فِي أَحَدِ شُرُوحِهِ عَلَى الرِّسَالَةِ عَلَى نَقْلِ كَلَامِ الْبَاجِيِّ وَأَمَّا عَبْدُ الْوَهَّابِ وَابْنُ نَاجِي فَلَمْ يَتَعَرَّضَا لِتَبْيِينِ الْوَقْتِ.
وَقَوْلُ الْقَرَافِيِّ وَالْمَوْجُودُ لِمَالِكٍ إنَّمَا هُوَ إلَى آخِرِهِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَرِدْ عَنْ مَالِكٍ نَصٌّ عَلَى أَنَّهَا قَبْلَ الزَّوَالِ وَقَدْ وَرَدَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ الْعُتْبِيَّةِ وَبَيَّنَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ فَتَقَوَّى الْقَوْلُ الَّذِي صَحَّحَهُ الْقَرَافِيُّ وَزَادَ صِحَّةً عَلَى صِحَّةٍ بِوُرُودِ النَّصِّ عَنْ مَالِكٍ عَلَى وَقْفِهِ وَتَقْرِيرِ ابْنِ رُشْدٍ لَهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَمْ يُصَرِّحْ بِأَنَّ وَقْتَ الرَّوَاحِ يَدْخُلُ بِأَوَّلِ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ أَنَّ التَّهْجِيرَ يَكُونُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَيُرْجَعُ فِي قَدْرِ ذَلِكَ إلَى مَا اتَّصَلَ بِهِ الْعَمَلُ كَمَا سَيَأْتِي وَنَصُّهُ مَسْأَلَةٌ.
وَسُئِلَ عَنْ التَّهْجِيرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَالَ نَعَمْ يُهَجِّرُ بِقَدَرٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] وَقَالَ {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] وَكَانَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَغْدُونَ إلَى الْجُمُعَةِ هَكَذَا وَأَنَا أَكْرَهُ هَذَا الْقَدْرَ هَكَذَا حَتَّى إنَّ الْمَرْءَ لَا يُعْرَفُ بِهِ وَأَنَا أَخَافُ عَلَى هَذَا الَّذِي يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَهُ شَيْءٌ وَأَنْ يُحِبَّ أَنْ يُعْرَفَ بِهِ فَأَنَا أَكْرَهُهُ وَلَا أُحِبُّهُ وَلَكِنْ رَوَاحًا بِقَدَرٍ وَقَدْ سَمِعْت السَّائِلَ يَسْأَلُ رَبِيعَةَ يَقُولُ لَأَنْ أُلْقَى فِي طَرِيقِ الْمَسْجِدِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أُلْقَى فِي طَرِيقِ السُّوقِ فَقِيلَ لِمَالِكٍ مَا تَقُولُ أَنْتَ فِي هَذَا؟ .
فَقَالَ هَذَا مَا لَا يَجِدُ أَحَدٌ مِنْهُ بُدًّا قِيلَ لَهُ أَفَتَرَى أَنْ يَرُوحَ قَبْلَ الزَّوَالِ؟ .
قَالَ نَعَمْ فِي رَأْيِي.
قِيلَ لَهُ: أَتُهَجِّرُ بِالرَّوَاحِ إلَى الصَّلَاةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ؟ .
فَقَالَ: نَعَمْ، فِي ذَلِكَ سَعَةٌ.
قَالَ الْقَاضِي مُحَمَّدُ بْنُ رُشْدٍ كَرِهَ مَالِكٌ الْغُدُوَّ بِالرَّوَاحِ إلَى الْجُمُعَةِ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ