اللَّخْمِيِّ وَإِنْ قَالَ أَوْدَعْتنِي مِائَةَ دِرْهَمٍ، ثُمَّ قَالَ لَمْ أَقْبِضْهَا لَمْ يُصَدَّقْ وَلَوْ قَالَ اشْتَرَيْت مِنْك ثَوْبًا، ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَقْبِضْهُ قُبِلَ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ أَوْدَعْتَنِي يَدُلُّ عَلَى الْقَبْضِ وَالشِّرَاءُ يَقَعُ عَلَى الْعَقْدِ انْتَهَى.
(تَنْبِيهٌ) : مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ الشَّيْخِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ قَوْلِهِ مَا أَوْدَعْتَنِي شَيْئًا، فَلَا تُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ مَا لَك عِنْدِي مِنْ هَذِهِ الْوَدِيعَةِ شَيْءٌ فَتُسْمَعُ بَيِّنَتُهُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ جَارٍ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ فِي الْبَابِ السَّادِسِ وَالْخَمْسِينَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ تَبْصِرَتِهِ مَنْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا مِنْ سَلَفٍ أَوْ قِرَاضٍ أَوْ وَدِيعَةٍ أَوْ بِضَاعَةٍ أَوْ رِسَالَةٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ عَارِيَّةٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ حَقٍّ مِنْ الْحُقُوقِ فَجَحَدَ أَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، فَلَمَّا خَافَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ أَقَرَّ، وَادَّعَى فِيهِ وَجْهًا مِنْ الْوُجُوهِ يُرِيدُ إسْقَاطَ ذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَإِنْ قَامَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ عَلَى مَا زَعَمَ أَخِيرًا؛ لِأَنَّ جُحُودَهُ أَوَّلًا أَكْذَبَ الْبَيِّنَةَ فَلَا تُسْمَعُ وَإِنْ كَانُوا عُدُولًا.
(تَنْبِيهٌ) : وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ إنْ لَمْ يُقِرَّ وَلَكِنْ قَامَتْ بِذَلِكَ بَيِّنَةٌ فَأَقَامَ هُوَ بَيِّنَةً أَيْضًا عَلَى رَدِّ السَّلَفِ أَوْ الْوَدِيعَةِ أَوْ الْقِرَاضِ أَوْ الْبِضَاعَةِ أَوْ الرِّسَالَةِ أَوْ عَلَى هَلَاكِ ذَلِكَ فَلَا يَنْفَعُهُ؛ لِأَنَّهُ بِإِنْكَارِهِ مُكَذِّبٌ لِذَلِكَ كُلِّهِ هَذَا قَوْلُ الرُّوَاةِ أَجْمَعِينَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ وَابْنِ وَهْبٍ وَمُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ. (فَرْعٌ) : وَأَمَّا إنْ قَالَ: مَا لَكَ عَلَيَّ سَلَفٌ وَلَا ثَمَنُ سِلْعَةٍ وَلَا لَك عِنْدِي وَدِيعَةٌ وَلَا قِرَاضٌ وَلَا بِضَاعَةٌ فَلَمَّا ثَبَتَ ذَلِكَ قَبْلَهُ بِالْبَيِّنَةِ أَقَرَّ بِذَلِكَ وَزَعَمَ أَنَّ الْوَدِيعَةَ وَالسِّلْعَةَ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يُدَّعَى عَلَيْهِ أَوْ ادَّعَى هَلَاكَهُ، وَأَقَامَ عَلَى ذَلِكَ بَيِّنَةً، فَهَهُنَا تَنْفَعُهُ الْبَرَاءَةُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ مَا لَكَ شَيْءٌ يُرِيد فِي وَقْتِي هَذَا، وَأَمَّا فِي الصُّورَةِ الْأُولَى إذَا قَالَ: مَا أَسْلَفْتَنِي وَلَا أَوْدَعْتَنِي فَلَيْسَ مِثْلَ قَوْلِهِ هُنَا مَا لَكَ عَلَيَّ سَلَفٌ قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ، وَهَذَا مِمَّا لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا عِنْدَ الرُّوَاةِ إلَّا أَنِّي رَأَيْتُ فِي كِتَابِ الْأَقْضِيَةِ مِنْ السَّمَاعِ شَيْئًا يُخَالِفُ هَذَا وَأَظُنُّ لَهُ وَجْهًا يُصَحِّحُ مَعْنَاهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ رَجُلٍ بُعِثَ مَعَهُ رَجُلٌ بِعِشْرِينَ دِينَارًا يُبْلِغُهَا إلَى الْجَارِ وَالْجَارُ مَوْضِعٌ وَكَتَبَ إلَيْهِ كِتَابًا وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ عِنْدَ دَفْعِهِ إلَيْهِ فَحَمَلَ الْكِتَابَ وَبَلَّغَهُ إلَى مَنْ أَرْسَلَ إلَيْهِ فَلَمَّا قَرَأَهُ سَأَلَهُ عَنْ الذَّهَبِ، فَجَحَدَهُ إيَّاهُ، ثُمَّ إنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَسَأَلَهُ الَّذِي أَرْسَلَ مَعَهُ الذَّهَبَ، وَقَالَ لَهُ إنِّي أَشْهَدْت عَلَيْكَ فَقَالَ لَهُ: إنْ كُنْتَ دَفَعْت إلَيَّ شَيْئًا فَقَدْ ضَاعَ فَقَالَ مَالِكٌ مَا أَرَى عَلَيْهِ إلَّا يَمِينَهُ وَأَرَى هَذَا مِنْ مَالِكٍ إنَّمَا هُوَ فِي الْجَاهِلِ الَّذِي لَا يَعْرِفُ أَنَّ الْإِنْكَارَ يَضُرُّهُ، وَأَمَّا الْعَالِمُ الَّذِي يَعْلَمُ أَنَّهُ يَضُرُّهُ، ثُمَّ يَنْدَمُ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يُعْذَرُ مِنْ كِتَابِ الرُّعَيْنِيِّ انْتَهَى كَلَامِ ابْنِ فَرْحُونٍ.
وَهَذَا كُلُّهُ كَلَامُ الرُّعَيْنِيِّ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى وَالْإِنْكَارُ غَيْرَ أَنَّ الرُّعَيْنِيَّ زَادَ بَعْدَهُ وَرَأَيْت لِابْنِ مُزَيْنٍ لَفْظَةَ أَنَّهُ قَبِلَ بِبَيِّنَةٍ عَلَى الْقَضَاءِ وَإِنْ جَحَدَهُ وَقَالَ مَا أَسْلَفْتَنِي قَطُّ شَيْئًا وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَفِي مَسَائِلِ الْعُيُوبِ مِنْ الْبُرْزُلِيِّ فِيمَنْ قُيِّمَ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ، فَأَنْكَرَ الْبَيْعَ فَلَمَّا ثَبَتَ عَلَيْهِ زَعَمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ اعْتَمَرَ، وَعَرَضَ لِلْبَيْعِ بَعْدَ اطِّلَاعِهِ عَلَى الْعَيْبِ فَقَالَ هَاشِمُ بْنُ مُحَمَّدٌ هَذَا تَنَاقُضٌ؛ لِأَنَّهُ كَذَّبَ بَيِّنَتَهُ قُلْت: هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَجْرِي عَلَى مَسْأَلَةِ مَنْ طُولِبَ بِشَيْءٍ فَأَنْكَرَهُ، وَأُقِيمَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ فَأَتَى بِحُجَّةٍ تُوجِبُ قَبُولَ قَوْلِهِ وَفِيهَا خِلَافٌ مَشْهُورٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ مَسْأَلَةِ اللِّعَانِ وَالتَّخْيِيرِ الْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهَا حَكَاهُ ابْنُ رُشْدٍ وَغَيْرُهُ انْتَهَى.
(قُلْت) : فَيَتَحَصَّلُ مِمَّا تَقَدَّمَ جَمِيعُهُ أَنَّهُ إذَا أَنْكَرَ أَصْلَ الْمُعَامَلَةِ، ثُمَّ أَقَرَّ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، وَادَّعَى مَا يُسْقِطُ ذَلِكَ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا بَيِّنَتُهُ وَلَوْ كَانَتْ بَيِّنَةً عَادِلَةً بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ مَا لَكَ عَلَيَّ سَلَفٌ وَلَا وَدِيعَةٌ أَوْ لَا قِرَاضٌ أَوْ قَالَ مَا لَكَ عِنْدِي حَقٌّ، ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ الْبَيِّنَةُ، فَادَّعَى مَا يُسْقِطُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ أَوْ بَيِّنَتُهُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي رَسْمِ أَسْلَمَ مِنْ سَمَاعِ عِيسَى مِنْ كِتَابِ الدَّعْوَى وَالصُّلْحِ وَبِذَلِكَ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي بَابِ الْأَقْضِيَةِ، فَقَالَ وَإِنْ أَنْكَرَ مَطْلُوبٌ الْمُعَامَلَةَ فَالْبَيِّنَةُ، ثُمَّ لَا تُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ بِالْقَضَاءِ بِخِلَافِ لَا حَقَّ لَكَ عَلَيَّ انْتَهَى. وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيِّدَ ذَلِكَ أَيْضًا بِمَا قَالَهُ الرُّعَيْنِيُّ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ يَعْرِفُ أَنَّ الْإِنْكَارَ