كَالزَّادِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّادِ حَيْثُ اُعْتُبِرَ دُفْعَةً وَاحِدَةً هُوَ أَنَّ الْعَادَةَ فِي الزَّادِ أَنْ يُحْمَلَ دُفْعَةً وَاحِدَةً لِطُولِ الطَّرِيقِ، وَالْمَاءُ إنَّمَا يُحْمَلُ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ وَأَيْضًا لِحَمْلِ الزَّادِ دُفْعَةً لَا يُشَقُّ، وَفِي حَمْلِ الْمَاءِ لِطُولِ الطَّرِيقِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ وَمُؤْنَةٌ كَبِيرَةٌ مِنْ قِبَلِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَحْتَاجُ الْمَاءَ أَكْثَرَ مِنْ الزَّادِ فَيَشُقُّ حَمْلُهُ فَلِذَلِكَ اُعْتُبِرَ وُجُودُهُ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ كَلَامٌ مُسْتَقِيمٌ فَاعْلَمْهُ، انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَوْضِيحِهِ بِلَفْظٍ، وَنَقَلَ عَبْدُ الْحَقِّ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِطَاعَةِ وُجُودُ الْمَاءِ فِي كُلِّ مَنْهَلٍ، وَنَقَلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِلَفْظٍ وَصَوَّبَ عَبْدُ الْحَقِّ قَوْلَ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ: مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ وُجُودُ الْمَاءِ فِي كُلِّ مَنْهَلٍ. وَنَقَلَهُ الْجُزُولِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ بِلَفْظٍ مِنْ شَرْطِ الْحَجِّ أَنَّهُ يَجِدُ الْمَاءَ فِي كُلِّ مَنْهَلٍ، قَالَهُ عَبْدُ الْحَقِّ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِلْمَذْهَبِ وَنَقَلَهُ التَّادَلِيُّ وَالْأَقْفَهْسِيُّ وَالْبَرْزَلِيُّ وَقَبَلُوهُ، قَالَ الْبُرْزُلِيُّ: قَالَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يَعْنِي ابْنَ عَرَفَةَ: وَلِهَذَا لَمْ يَحُجَّ أَكْثَرُ شُيُوخِنَا لِكَوْنِ الْمَاءِ يَتَعَذَّرُ غَالِبًا فِي بَعْضِ الْمَنَاهِلِ، وَحَكَاهُ فِي الشَّامِلِ بِقِيلَ وَذَلِكَ يَقْتَضِي تَضْعِيفَهُ، وَأَنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ وَكَلَامُ الْجَمَاعَةِ الْمُتَقَدِّمِينَ يَقْتَضِي اعْتِمَادَهُ وَأَنَّهُ الْمَذْهَبُ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وُجُودُهُ فِي الْمَنَاهِلِ الَّتِي جَرَتْ الْعَادَةُ بِوُجُودِ الْمَاءِ فِيهَا غَالِبًا لَا وُجُودُهُ فِي كُلِّ مَرْحَلَةٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مُتَعَذِّرٌ فَتَأَمَّلْهُ، وَقَالَ الْأَبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ الْخَثْعَمِيَّةِ لَمَّا تَكَلَّمَ عَلَى الِاسْتِطَاعَةِ قُلْت: وَمَا ذُكِرَ عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ وُجُودُ الْمَاءِ فِي كُلِّ مَنْزِلٍ لَا يُرِيدُ بِهِ مَنْزِلَ كُلَّ يَوْمٍ إنَّمَا يُرِيدُ فِي كُلِّ زَمَانٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إلَيْهِ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: فِي كُلِّ مَنْزِلٍ، يَعْنِي الْمَنْهَلَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ عَبْدِ الْحَقِّ حَيْثُ عَبَّرَ عَنْهُ فِي أَوَّلِ كَلَامِهِ بِالْمَنْهَلِ وَفِي آخِرِهِ بِالْمَنْزِلِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
ص (وَإِنْ بِثَمَنِ وَلَدِ زِنًا)
ش: يَعْنِي أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الِاسْتِطَاعَةِ هُوَ إمْكَانُ الْوُصُولُ عَلَى التَّفْصِيلِ الْمَذْكُورِ وَإِنْ حَصَلَ ذَلِكَ الْإِمْكَانُ بِثَمَنِ مَمْلُوكٍ لِلْمُكَلَّفِ وَكَانَ ذَلِكَ الْمَمْلُوكُ وَلَدَ زِنًا؛ لِأَنَّ ثَمَنَ وَلَدِ الزِّنَا حَلَالٌ لِمَالِكِهِ لَا شُبْهَةَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدُهُ وَإِثْمُ الزِّنَا عَلَى أَبَوَيْهِ، وَإِنَّمَا نَبَّهَ عَلَى هَذَا لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ كَوْنَ الْوَلَدِ نَاشِئًا عَنْ الزِّنَا مَانِعٌ مِنْ الْحَجِّ بِثَمَنِهِ وَلِأَنَّ كَلَامَ ابْنِ رُشْدٍ الْآتِي يَقْتَضِي أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ عِنْدَ مَالِكٍ أَنْ لَا يَحُجَّ بِهِ، يَعْنِي مِمَّنْ يَمْلِكُ غَيْرُهُ كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ وَفِي الْعُتْبِيَّةِ فِي رَسْمِ الْمُحْرِمِ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ مِنْ كِتَابِ الْحَجِّ وَفِي كِتَابِ الْجَامِعِ أَيْضًا، وَلَفْظُ الرِّوَايَةِ سُئِلَ مَالِكٌ هَلْ يَحُجُّ بِثَمَنِ وَلَدِ الزِّنَا؟ قَالَ: أَلَيْسَ مِنْ أَمَتِهِ وَلَدَتْهُ مِنْ زِنًا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: لَا بَأْسَ بِذَلِكَ.
قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: مَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَحُجَّ بِثَمَنِ وَلَدِ الزِّنَا وَأَنَّهُ يُعْتَقُ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ وَإِنْ كَانَ الِاسْتِحْبَابُ عِنْدَهُ غَيْرَ ذَلِكَ وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْهُ فِي سَمَاعِهِ مِنْ كِتَابِ الْعِتْقِ أَنَّهُ اُسْتُحْسِنَ أَنْ لَا يُعْتَقَ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ وَقَالَ: قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] وَإِنَّمَا مَنَعَ ذَلِكَ مِنْ مَنْعِهِ؛ لِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «وَلَدُ الزِّنَا شَرُّ الثَّلَاثَةِ» وَحَدِيثِ «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زَانِيَةٍ» وَحَدِيثِ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سُئِلَ عَنْ عِتْقِهِ قَالَ: لَا خَيْرَ فِيهِ نَعْلَانِ يُعَانُ بِهِمَا أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ عِتْقِ وَلَدِ الزِّنَا» وَلَيْسَتْ الْأَحَادِيثُ عَلَى ظَاهِرِهَا فَإِنَّ الْأَوَّلَ إنَّمَا قَالَهُ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِهِ كَانَ يُؤْذِيهِ وَبِذَلِكَ فَسَّرَتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَمَّا بَلَغَهَا مَا حَدَّثَ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَقَالَتْ: رَحِمَ اللَّهُ أَبَا هُرَيْرَةَ أَسَاءَ سَمْعًا فَأَسَاءَ إجَابَةً.
وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: بَلْ هُوَ خَيْرُ الثَّلَاثَةِ قَدْ أَعْتَقَهُ عُمَرُ وَلَوْ كَانَ خَبِيثًا مَا فَعَلَ وَهُوَ كَمَا قَالَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ بِمَا اقْتَرَفَهُ أَبَوَاهُ وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَاهُ: إنَّهُ حَدَثَ عَنْ شَرِّ الثَّلَاثَةِ أَبَوَاهُ وَالشَّيْطَانُ لَا أَنَّهُ فِي نَفْسِهِ شَرٌّ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ عَائِشَةَ وَأَمَّا الْحَدِيثُ الثَّانِي فَالْمَعْنَى فِي ذَلِكَ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ الزِّنَا حَتَّى نُسِبَ إلَيْهِ كَمَا يُنْسَبُ إلَى الشَّيْءِ مَنْ كَثُرَ مِنْهُ حَتَّى يُقَالُ لِلْمُتَحَقِّقِينَ بِالدُّنْيَا: الْعَامِلِينَ لَهَا أَبْنَاءُ الدُّنْيَا، وَلِمَنْ أَكْثَرَ مِنْ السَّفَرِ: ابْنُ السَّبِيلِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ الْحَدِيثُ الثَّالِثُ انْتَهَى مُخْتَصَرًا.
(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) لَفْظُ الرِّوَايَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجُوزُ الْحَجُّ بِثَمَنِ وَلَدِ الزِّنَا إلَّا أَنَّهُ يَجِبُ وَهَذَا إذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إلَّا ذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحُجَّ كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ