فَفِي ذَلِكَ قَوْلَانِ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْقَوْلَةِ الَّتِي بَعْدَ هَذِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ص (إلَّا لِأَخْذِ ظَالِمٍ مَا قَلَّ لَا يَنْكُثُ عَلَى الْأَظْهَرِ)

ش: لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْأَمْنَ عَلَى الْمَالِ اُسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ مَا إذَا كَانَ عَدَمُ الْأَمْنِ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ؛ لِأَنَّ فِي الطَّرِيقِ مَكَّاسًا يَأْخُذُ مِنْ الْمَالِ شَيْئًا قَلِيلًا وَلَا يَنْكُثُ بَعْدَ أَخْذِهِ لِذَلِكَ الْقَلِيلِ، فَذَكَرَ أَنَّ فِي ذَلِكَ قَوْلَيْنِ: أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ سُقُوطِ الْحَجِّ، وَالثَّانِي سُقُوطُهُ. قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: إنْ كَانَ مَا يَأْخُذُهُ الْمَكَّاسُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ أَوْ مُعَيَّنًا مُجْحِفًا سَقَطَ الْوُجُوبُ وَفِي غَيْرِ الْمُجْحِفِ قَوْلَانِ: أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ السُّقُوطِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَبْهَرِيِّ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ وَالْآخَرُ حَكَاهُ ابْنُ الْقَصَّارِ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ انْتَهَى.

(تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ) ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي التَّوْضِيحِ أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمَكَّاسُ يَأْخُذُ مَا يُجْحِفُ سَقَطَ الْحَجُّ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَظَاهِرُ مَا نَقَلَهُ التَّادَلِيُّ عَنْ ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ يَخْتَارُ عَدَمَ السُّقُوطِ سَوَاءٌ طَلَبَ مَا يُجْحِفُ أَمْ لَا يُجْحِفُ خِلَافُ مَا نَقَلَهُ عَنْهُ فِي التَّوْضِيحِ وَنَصُّهُ قَالَ صَاحِبُ السِّرَاجِ: فَإِنْ طَلَبَ مِنْهُ الظَّالِمُ فِي طَرِيقٍ أَوْ فِي دُخُولِ مَكَّةَ مَالًا فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ: لَا يَدْخُلُ وَلَا يُعْطِيهِ وَلْيَرْجِعْ، وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُعْطِيَهُ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَدْخُلَ فِي ذَلِكَ خِلَافٌ فَإِنَّ الرَّجُلَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَمْنَعَ عِرْضَهُ مِمَّنْ يَهْتِكُهُ بِمَالِهِ، وَقَالُوا: كُلُّ مَا وَقَى بِهِ الْمَرْءُ عَرْضَهُ فَهُوَ صَدَقَةٌ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِيَ دِينَهُ مِمَّنْ يَمْنَعُهُ إيَّاهُ وَلَوْ أَنَّ ظَالِمًا قَالَ لِرَجُلٍ لَا أَمْكَنَك مِنْ الْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ إلَّا بِجُعْلٍ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ إيَّاهُ انْتَهَى.

وَصَاحِبُ السِّرَاجِ هُوَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فَظَاهِرُ كَلَامِهِ هَذَا أَنَّهُ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَا يُجْحِفُ وَمَا لَا يُجْحِفُ، كَمَا نَقَلَهُ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ وَفِي كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ مَيْلٌ إلَى هَذَا فَإِنَّهُ قَالَ: وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ بِبَقَائِهِ فَقِيرًا وَأَنَّهُ يَبِيعُ عُرُوضَهُ، وَأَنَّهُ يَتْرُكُ وَلَدَهُ لِلصَّدَقَةِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يُرَاعَى مَا يُجْحِفُ فَضْلًا عَمَّا لَا يُجْحِفُ، قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي التَّوْضِيحِ بَعْدَ نَقْلِهِ كَلَامَ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَقَدْ يُفَرَّقُ بِأَنَّ فِي الْإِعْطَاءِ هُنَا إعَانَةً لِلظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ وَبَغْيِهِ انْتَهَى.

((قُلْتُ)) وَيُمْكِنُ أَنْ يُفَرَّقَ بِأَنَّ تِلْكَ الْأُمُورَ لَا بُدَّ مِنْهَا وَلَا يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَّا بِهَا بِخِلَافِ هَذِهِ فَتَأَمَّلْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(الثَّانِي) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ إذَا كَانَ الْمَأْخُوذُ قَلِيلًا وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمَكَّاسُ يَطْلُبُ الْكَثِيرَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْحَجَّ، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْكَثِيرُ لَا يُجْحِفُ بِالْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ أَوْ صَرِيحُهُ وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي تَوْضِيحِهِ وَمَنَاسِكِهِ أَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ مَا لَا يُجْحِفُ وَلَوْ كَانَ فِي نَفْسِهِ كَثِيرًا وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ وَالْقَرَافِيّ وَغَيْرِهِمَا، قَالَ التَّادَلِيُّ قَالَ الْقَرَافِيُّ: يَسْقُطُ فَرْضُ الْحَجِّ إذَا كَانَ فِي الطَّرِيقِ عَدُوٌّ يَطْلُبُ النَّفْسَ أَوْ مِنْ الْمَالِ مَا لَا يَتَحَدَّدُ أَوْ يَتَحَدَّدُ وَيُجْحِفُ وَفِي غَيْرِ الْمُجْحِفِ خِلَافٌ انْتَهَى.

وَلَا شَكَّ فِي تَغَايُرِ الْعِبَارَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُجْحِفَ وَغَيْرَ الْمُجْحِفِ يَخْتَلِفَانِ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، فَرُبَّ شَخْصٍ يُجْحِفُ بِهِ الدِّينَارُ وَآخَرُ لَا يُجْحِفُ بِهِ الْعَشَرَةُ، وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ لَا يَسْقُطُ بِعَدَمِ الْيَسِيرِ قَالَ وَظَاهِرُ قَوْلِ الْقَاضِي: وَلَا بِكَثِيرٍ، لَا يُجْحِفُ انْتَهَى.

((قُلْتُ)) وَاعْتِبَارُ الْمُجْحِفِ وَغَيْرِ الْمُجْحِفِ هُوَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ الْأَكْثَرِ وَهُوَ الظَّاهِرُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: مَا قَلَّ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ قَلِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَلَا يُجْحِفُ بِهِ وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فِي نَفْسِهِ فَيَتَّفِقُ كَلَامُهُ فِي كُتُبِهِ الثَّلَاثَةِ، وَقَالَ سَنَدٌ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ كَلَامَ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ: وَاَلَّذِي قَالَهُ حَسَنٌ، وَنَصُّ كَلَامِهِ إذَا كَانَ الْمَنْعُ إنَّمَا هُوَ لِمَغْرَمٍ فَقَالَ فِي الْمَعُونَةِ: إذَا كَانَ يُجْحِفُ لَمْ يَلْزَمْ فَاعْتُبِرَ مَا تَبْلُغُ مَضَرَّتُهُ مِنْ ذَلِكَ إلَى حَدٍّ لَا يُحْتَمَلُ وَقَالَ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ: إذَا لَمْ يُمْكِنْهُ الْمَسِيرُ إلَّا بِدَفْعِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ، وَقَالَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا الْقَاضِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيُّ الْمَعْرُوفُ بِعَلْعَلٍ وَاَلَّذِي قَالَهُ الْقَاضِي يَعْنِي فِي الْمَعُونَةِ حَسَنٌ، فَلَا يَسْقُطُ عَنْ الْمُوسِرِ بِانْتِقَاصِ دِينَارٍ مِنْ مَالِهِ، وَضَرَرُ ذَلِكَ يُحْتَمَلُ انْتَهَى.

وَمِمَّنْ قَالَ بِسُقُوطِ الْحَجِّ بِغَيْرِ الْمُجْحِفِ أَبُو عِمْرَانَ الْفَاسِيُّ فَإِنَّهُ أَفْتَى جَمَاعَةً مَشَوْا مَعَهُ لِلْحَجِّ فَطَلَبَ مِنْهُمْ أَعْرَابِيٌّ عَلَى كُلِّ جَمَلٍ ثَمَنُ دِرْهَمٍ بِأَنْ يَرْجِعُوا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015