فَرَجَعُوا ذَكَرَهُ الزَّنَاتِيُّ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ وَنَقَلَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ وَالتَّادَلِيُّ وَغَيْرُهُمَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
(الثَّالِثُ) قَيَّدَ الْمُصَنِّفُ هُنَا الْوُجُوبَ بِكَوْنِ الظَّالِمِ لَا يَنْكُثُ وَأَطْلَقَ ذَلِكَ فِي مَنَاسِكِهِ، وَمَا قَالَهُ هُنَا هُوَ الْمُتَعَيِّنُ وَيُحْمَلُ كَلَامُهُ فِي مَنَاسِكِهِ عَلَيْهِ، وَقَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْقَاضِي عَبْدِ الْوَهَّابِ وَغَيْرِهِ وَاحْتُرِزَ بِذَلِكَ مِمَّا إذَا كَانَ الظَّالِمُ يَنْكُثُ، قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوق فِي شَرْحِ هَذَا الْمَحَلُّ مِنْ الْمُخْتَصَرِ: أَوْ جَهِلَ فَإِنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ فِي سُقُوطِ الْحَجِّ، وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْبُرْزُلِيِّ عَنْ ابْنِ رُشْدٍ مَا يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الشَّيْخُ زَرُّوق وَقَدْ عُلِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ: " عَلَى الْأَظْهَرِ " رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ: " مَا قَلَّ " لَا إلَى قَوْلِهِ: لَا يَنْكُثُ، إذْ لَا خِلَافَ فِي سُقُوطِ الْحَجِّ إذَا كَانَ يَنْكُثُ وَلَا يُؤْمَنُ مِنْ غَدْرِهِ وَنَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ غَازِيٍّ، وَلَوْ قَدَّمَ قَوْلَهُ: لَا يَنْكُثُ، عَلَى قَوْلِهِ: مَا قَلَّ؛ فَقَالَ: إلَّا لِأَخْذِ ظَالِمٍ لَا يَنْكُثُ مَا قَلَّ عَلَى الْأَظْهَرِ؛ لَكَانَ أَبْيَنَ.
(الرَّابِعُ) قَوْلُهُ: " عَلَى الْأَظْهَرِ " يَقْتَضِي أَنَّ ابْنَ رُشْدٍ هُوَ الَّذِي اسْتَظْهَرَ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي رَجَّحَهُ، وَقَالَ ابْنُ غَازِيٍّ: لَمْ أَجِدْهُ لَهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ وَلَا فِي الْبَيَانِ وَلَا فِي الْأَجْوِبَةِ وَلَا عَزَاهُ لَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَلَا الْمُصَنِّفُ فِي تَوْضِيحِهِ وَلَا فِي مَنَاسِكِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَفِي سُقُوطِهِ بِغَيْرِ الْمُجْحِفِ قَوْلَانِ، أَظْهَرُهُمَا عَدَمُ السُّقُوطِ وَهُوَ قَوْلُ الْأَبْهَرِيِّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرُهُ انْتَهَى.
((قُلْتُ)) رَأَيْت فِي أَوَائِلِ مَسَائِلِ الْحَجِّ مِنْ الْبُرْزُلِيِّ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ عَزَاهُ لِابْنِ رُشْدٍ ذَكَرَ فِيهِ قَوْلَيْنِ وَصَدَّرَ بِالْقَوْلِ بِعَدَمِ السُّقُوطِ مَا نَصُّهُ وَالْأَوَّلُ أَوْلَى: إنْ سَأَلَ يَسِيرًا أَوْ عَلِمَ عَدَمَ غَدْرِهِ قِيَاسًا عَلَى عَادِمِ الْمَاءِ يَلْزَمُهُ شِرَاؤُهُ إنْ كَانَ يَسِيرًا لَا يُجْحَفُ بِهِ، وَإِنْ أَجْحَفَ لَمْ يَلْزَمْهُ شِرَاؤُهُ انْتَهَى.
فَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ وَقَفَ عَلَى هَذَا الْكَلَامِ فَأَشَارَ إلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ الْفَرَسِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: هُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ أَصْحَابِ مَالِكٍ، قَالَ: وَهُوَ الْأَظْهَرُ وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ اخْتِيَارُ ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَأَنَّ ابْنَ عَبْدِ السَّلَامِ مَالَ إلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ عَزْوُ مُقَابِلِهِ وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَبُو عِمْرَانَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ أَفْتَاهُمْ بِالرُّجُوعِ لَمَّا طَلَبَ مِنْهُمْ ثَمَنَ دِينَارٍ عَلَى كُلِّ جَمَلٍ.
(الْخَامِسُ) قَالَ سَنَدٌ: أَمَّا مَا يَأْخُذُهُ الْجُنْدُ عَلَى مَنْ بَذْرَقَةُ الْحَجِيجِ لِيَدْفَعُوا عَنْهُمْ كُلَّ يَدٍ عَادِيَةٍ فَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو بَكْرِ بْنُ الْوَلِيدِ: هِيَ مِنْ وَجْهٍ تُشْبِهُ سَائِرَ النَّفَقَاتِ اللَّازِمَةِ؛ لِأَنَّ أَخْذَهَا لِلْجُنْدِ جَائِزٌ إذْ لَا يَلْزَمُهُمْ الْخُرُوجُ مَعَهُمْ فَهِيَ أُجْرَةٌ يَصْرِفُونَهَا فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَهِيَ مِنْ وَجْهٍ تُشْبِهُ الظُّلْمَ؛ لِأَنَّ أَصْلَ تَوْظِيفِهَا خَوْفُ قَاطِعِ الطَّرِيقِ انْتَهَى.
وَنَقَلَهُ ابْنُ جَمَاعَةَ الشَّافِعِيُّ فِي مَنْسَكِهِ عَنْ الشَّيْخِ أَبِي بَكْرٍ وَزَادَ عَلَيْهِ وَقَدْ اُتُّفِقَ عَلَى جَوَازِ اسْتِئْجَارِهِمْ مَنْ يَخْفِرُهُمْ مِنْ الْأَعْرَابِ وَاللُّصُوصِ مَعَ تَجْوِيزِ الْغَرَرِ، وَقَالَ: إنَّ أُجْرَةَ الدَّلِيلِ تَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَلَا يَسْقُطُ بِهَا الْفَرْضُ انْتَهَى.
وَقَالَ الْبُرْزُلِيُّ فِي أَثْنَاءِ جَوَابِ سُؤَالِ ابْنِ رُشْدٍ: لَمْ يَقَعْ خِلَافٌ فِيمَا يَأْخُذُهُ الْحَافِظُ مِنْ اللُّصُوصِ إذَا قَلَّ وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِيمَا يَأْخُذُهُ الظَّالِمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ نَكْثُهُ وَالْحَافِظُ لَيْسَ بِظَالِمٍ فِيمَا يَأْخُذُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَهُمْ، وَإِنَّمَا هُوَ أَجِيرٌ فَوَجَبَ أَنْ يُؤْتَمَنَ انْتَهَى.
وَقَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ نَكْثُهُ؛ تَعْلِيلٌ لِوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهِ، وَمُرَادُهُ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْكُثَ؛ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ لَيْسَ لَهُ دِينٌ يَمْنَعُهُ وَأَمَّا لَوْ عُلِمَ نَكْثُهُ أَوْ شُكَّ فِيهِ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْحَجُّ بِلَا خِلَافٍ، وَتَحْصُلُ مِنْ هَذَا أَنَّ أُجْرَةَ الدَّلِيلِ وَمَا يَأْخُذُهُ الْجُنْدُ وَمَنْ يَحْفَظُ الْحُجَّاجَ مِنْ اللُّصُوصِ لَا يَسْقُطُ بِهَا الْحَجُّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَالْبَذْرَقَةُ بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَيُقَالُ بِالْمُهْمَلَةِ أَيْضًا وَفَتْحِ الرَّاءِ وَبَعْدَهَا قَافٌ ثُمَّ هَاءُ تَأْنِيثٍ لَفْظَةٌ عَجَمِيَّةٌ مَعْنَاهَا الْخِفَارَةُ قَالَهُ فِي الْقَامُوسِ وَلَمْ يَذْكُرْهَا فِي الصِّحَاحِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ: هِيَ الْخَفِيرُ وَهُوَ الَّذِي يَحْفَظُ الْحُجَّاجَ وَيَحْرُسُهُمْ وَكَأَنَّهَا تُطْلَقُ عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ، وَالْخُفَارَةُ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَكَسْرِهَا وَفَتْحِهَا حَكَى ذَلِكَ صَاحِبُ الْمُحَكَّمِ وَنَقَلَهُ النَّوَوِيُّ فِي تَهْذِيبِهِ، وَلَمْ يَحْكِ فِي الصِّحَاحِ وَالنِّهَايَةِ الْفَتْحَ، وَاقْتَصَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي الْمَشَارِقِ عَلَى الضَّمِّ وَفَسَّرَهَا بِالذِّمَّةِ، وَكَذَا صَاحِبُ الصِّحَاحِ وَفَسَّرَهَا فِي النِّهَايَةِ بِالذِّمَامِ وَهُوَ بِمَعْنَى الذِّمَّةِ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: إنَّهَا جُعْلُ الْخَفِيرِ