فجلست عنده، وبيدي الخرقة - وهو في النَّزع- لأشدَّ لحييه، فكان يغرق حتى نظنَّ أن قد قضى- أي: مات - ثم يفيق، ويقول بيده: لا بَعْدُ لا بَعْدُ! ففعل هذا مرةً، وثانيةً، فلما كان في الثالثة قلت له: يا أبت، أيشٍ هذا الذي قد لهجت به في هذا الوقت؟! فقال لي: يا بنيَّ، ما تدري؟ فقلت: لا! فقال: إبليس - لعنه الله - قام بحذائي عاضًّا على أنامله يقول: يا أحمد، فُتَّني! وأنا أقول: لا بَعدُ! حتى أموت» (?).

فللَّه تلك النفوس العالمة بحقيقة نفوسها، وبضعفها، وحاجتها لتثبيت الله تعالى في كلِّ لحظةٍ وأوانٍ! ولله تلك القلوب التي أيقنت أنَّ الهلاك كلَّ الهلاك، والخذلان كلَّ الخذلان أن يكل الله العبد إلى نفسه.

والعاقل يعتبر بمثل هذه المواعظ العمليَّة، ويتساءل: إذا كان هذا حال هؤلاء الصحب والأئمة الكرام، فماذا يقول من هو أقلُّ منهم علمًا وعملًا؟!

* * *

• ومن مواعظ أبي هريرة (?)، حينما سأله رجلٌ: ما التقوى؟ فقال:

«أخذتَ طريقًا ذا شوكٍ؟» قال: نعم، قال: «فكيف صنعت؟» قال: إذا رأيت الشوك، عدلت عنه، أو جاوزته، أو قصرت عنه! قال: «ذاك التَّقوى».

ما أجمل الوعظ حين يقرَّب بالمثال الذي يرسخ المعنى! وما أجمل تقرير المعاني الكبار بمثل هذا التيسير! بدلًا من التعاريف المعقَّدة، والحدود التي تشتِّت الأذهان عن بلوغ الغاية من هذه المعاني ... ! وهكذا كان علم السلف الصالح رحمهم الله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015