وَلَمْ يَخفْ وَلَمْ يَضْطَرِبَ مِنْ هَيْبَتِهِ فَقَالَ له: هَاتِ الكُتُبَ التِيْ مَعَكَ واصْدُقْنِىْ مِنْ بَعثَكَ فَقَدْ صَحَّ عِنَديْ أنَّكَ صَاحِبَ خَبَرِ وَأحْضَرَ السَّيَاطَ فاعْتَرَفَ.
فَقَالَ بَعْضُ جُلَسَائِهِ: هَذا وَاللهِ السَّحْرُ! قَالَ: مَا هُو بِسِحْرٍ ولَكِنْ فِرَاسَةٌ صَادِقَةٌ رأَيْتُ سُوْءَ حَالِهِ، فَوجَّهْتُ إليهِ بِطعَامٍ يرْغَبُ أكْلَهُ الشَّبْعَانُ فمَا هَشَّ لَهُ وَلا فَرِحَ وَلا مَدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ فَأَحْضَرْتُه فَتَلَقَّاني بِقُوَّةِ جَأْشٍ فَلَمَّا رَأيتُ رَثَاثَة حَالِهِ وَقُوَّةَ جَأْشِهِ عَلِمْتُ أنّه صَاحِبُ خَبَرٍ فَكَانَ كَمَا قَالَ.
وَرَأَى يَوْماً حَمَّالاً يَحْمِل صَنّاً – أيْ صُندُوقاً مِنْ خَشَبٍ – وَالحَمَّالُ تَضطرِبُ رجْلاهُ تَحْتَهُ فَقَالَ لَوْ كَانَ هَذا الاضطِرَابُ مِن الثَّقلِ لغَاصَتْ عُنُقُ الحَمَّالِ وَهَذِهِ عُنُقُهُ أُرَاهَا بَارِزَةً وَما أرَى الأَمْرَ إلاَّ مِنْ خَوْفٍ.
فَأَمَرَ بحَطَّ الصَّنَّ فَإذَا فِيْهِ أُنْثَى مَقْتُولَةٌ وَقَدْ قُطّعَتْ فقالَ لِلحَمَّالِ اصْدُقْنِيْ عَنْ حاَلِهَا فَقَالَ هُنَاكَ في الدَّارِ الفُلانِيَّةِ أَرْبَعَةُ نَفَر أَعْطَونِيْ هَذهِ الدَّنانِيرَ وَأَمَرُونِي بحَمْلِ هَذِهِ المَقْتُولَةِ فَضَرَبَهُ لأنَّهُ لَمْ يُخْبِرْهُ رَأْساً وَأمَرَ بِقَتْلِ الأرْبَعَةِ.
وَكَانَ يَتَنَكَّرُ - أَيْ يُغَيَّرُ لِبْسَتهُ وَهَيْئَتَهُ - وَيَدُوْرُ وَيَسْمَعُ قِرَاءَةَ أَئِمَّةَ المسَاجِدِ فَدَعَا ثِقَةً وَقَالَ خُذْ هَذِه الدَّنَانِيْرَ وَأَعْطِهَا إمَامَ المَسْجِدِ الفُلاَنِيَّ فَإنَّهُ فَقِيرٌ مَشْغُولُ القَلْبِ فَفَعلَ وَجَلَسَ مَعَ إمَامَ المَسْجِدِ وَبَاسَطهُ فَأَخْبَرَهُ أَنَّ زَوْجَتَهُ قَدْ أَخَذَهَا الطَّلْقُ وَلَيْسَ مَعَهُ مَا يَحْتَاجُ إليهِ فَأخبرهُ فَقَالَ: صَدَقَ عَرَفْتُ شُغْلَ قَلِبهِ بِكَثْرةِ غَلَطِهِ في القراءة.
وكَانَ يَرْكَبُ وحدهُ وَيَطُوفُ ليلاً ونهاراً يُفَتَّشُ ويتفقدُ الرَّعيةَ إلي أنْ مَرَّ يوماً في سُوْقٍ مَسْدُودٍ في بَعْضِ أطرافِ البَلَدِ فَدَخَله فَوَجَدَ مُنْكراً ووَجَدَهُ لا يَنْفُذُ فَرَآى عَلى أحَدِ أَبْوَابِهِ شَوْك سَمَكٍ كَثيرٍ وعِظَام الصُّلبِ.
فَقَالَ لِشَخْصِ: كَمْ يُقَوَّمُ تَقْدِيُر ثمَنَ هَذَا السَّمَكِ الذِيْ هَذِهِ عِظَامُهُ؟ قَالَ: