إِذْ لَو كَانَت دَلِيلا صَرِيحًا على وُجُوبه ابْتِدَاء لما أمكن خلاف أهل الْعلم فِي وجولا الْعمرَة لِأَنَّهَا قرينَة الْحَج فِي آيَة وَأَتمُّوا الْحَج وَالْعمْرَة لله الْمَذْكُورَة.
وَمِثَال النَّوْع الثَّانِي: وَهُوَ مَا كَانَ التدريج فِيهِ فِي حكم وَاحِد إِذا كَانَ التَّكْلِيف بِهِ فِيهِ مشقة بتشريع الْقِتَال وَالصَّوْم وَتَحْرِيم الْخمر. فان الْقِتَال فِيهِ مشقة على النُّفُوس لما يستلزمه من إِنْفَاق الْأَمْوَال وتعريض المهج للتلف. فالمجاهد عِنْد التقاء الصُّفُوف والتحام الْقِتَال لَا يخفى أَن حَيَاته فِي أعظم الْخطر.
وَلذَا كَانَ الْحَاضِر صف الْقِتَال عِنْد الْمَالِكِيَّة وَمن وافقهم مَحْجُورا عَلَيْهِ كالحجر على الْمَرِيض مَرضا مخوفا وَلأَجل هَذَا لم يفْرض الْجِهَاد مرّة وَاحِدَة بل أَنما فرض تدريجا على ثَلَاث مراحل. فَأذن فِيهِ أَولا من غير إِيجَاب بقوله تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} ثمَّ لما استأنست النُّفُوس بِهِ بعد الْإِذْن فِيهِ أمروا بِقِتَال من قَاتلهم دون من لم يقاتلهم بقوله تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} فَلَمَّا استأنست النُّفُوس بِالْقِتَالِ ومارسته وَهَان عَلَيْهَا فرض فرضا جَازِمًا باتا بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} وَقَوله تَعَالَى: {قَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} .
وَمَعْلُوم أَن بعض أهل الْعلم يَقُول فِي آيَة: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} . غير مَا ذكرنَا وَلَكِن مَا ذكرنَا اخْتَارَهُ غير وَأحد من الْعلمَاء.
وَأما الصَّوْم فَلَا يخفى أَنما كفر النَّفس عَن شَهْوَة الْبَطن والفرج فِيهِ مشقة على من لم يعتده وَلذَلِك شرع الصَّوْم أَيْضا تدريجا. فَكَانُوا فِي أول الْأَمر مخيرين بَين الصَّوْم وَبَين الْفطر وَالْإِطْعَام كَمَا دلّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: