واقعي. ولكنه لا يحصر نفسه في حدود ما تدركه الحواس. لأن حقيقة الوجود أكبر بكثير وأعظم بكثير من حدود ما تدركه الحواس.

واقعي ... ولكنه لا يحصر نفسه في الأرض.. في الحياة الدنيا؛ لأن حقيقة الآخرة أكبر بكثير وأخطر بكثير من حقيقة الأرض. ثم إنه لا انفصال في حسه بين العالم الحاضر والعالم المقبل، لأنها -كلها- رحلة واحدة أولها في الدنيا وآخرها في الآخرة. ولكنهما طريقان مختلفان في الحياة الدنيا يؤديان إلى نهايتين مختلفتين في الآخرة. أولاهما ينتهي فيها الكدح والمشقة والعذاب والجهد، ليبدأ نعيم لا حد له ولا انتهاء، والثانية ينتهي فيها ما قد يكون قد سبق من ألوان نعيم عارض، ثم يبدأ العذاب.

{كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ، فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} 1.

واقعي ... ولكنه لا يحصر نفسه في الجانب المادي من الحياة. لأن حقيقة الروح أفسح بكثير وأعمق بكثير من حقيقة الحس وحقيقة المادة. ثم إنه لا يوجد في الحقيقة ذلك الانفصال المتوهم بين عالم المادة وعالم الروح. لا يوجد في حقيقة الإنسان ولا في حقيقة الكون. فأما الإنسان فقد خلق من قبضة من طين الأرض ونفخة من روح الله ممتزجتين مترابطتين لا تنفصل إحداهما عن الأخرى:

{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُونٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} 2.

وأما الكون فقد أزاح العلم الحديث ذلك الفاصل المتوهم بين المادة والطاقة، ولم يعد أحد اليوم -من العلماء- يتحدث عن المادة بمعزل عن الطاقة أو عن الطاقة بمعزل عن المادة، لأنه لا عزلة في الحقيقة ولا انفصال!

واقعي ... ولكنه لا يحصر نفسه في حدود ذاته ولا حتى في حدود أسرته الصغيرة. فحقيقة الترابط في المجتمع وفي الوجود البشري كله أكبر بكثير وأخطر بكثير من حدود ذاته ومن حدود أسرته. ومن ثم فهو -مع اشتغاله بذاته وأسرته- مشتغل كذلك "بالأمور العامة" كما يسمونها في مصطلح هذا العصر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015