الأوائل وهداة البشرية إليه -لم ينطلقوا إلى إصلاح الأرض إلا بعد أن آمنوا بالغيب! آمنوا بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين.
ولم يكن أولئك العرب شيئًا مذكورًا في الأرض، ولا كان لهم دور في حياة البشرية حين كانوا محجوبين عن الإيمان بالغيب، ولا كانت لهم أهداف ولا آفاق أبعد من واقع الحس القريب.
ولكنهم أصبحوا "خير أمة أخرجت للناس" وقاموا بأكبر حركة إصلاح في الأرض، يوم آمنوا بما تنكره الجاهلية المعاصرة، وانطلقوا يكيفون حياتهم الواقعة بحسب ما يأتيهم من عالم الغيب!
لذلك ارتبط "الإصلاح" الحقيقي في حياة هذه الأمة بالإيمان بالغيب، على الصورة الإسلامية الصحيحة، بقدر ما ارتبط الإصلاح الزائف في حياة أوربا بنبذ الغيبيات والإيمان "بالواقع"!
فإذا كانت الحياة الإسلامية قد انحرفت من القرون الأخيرة وأصابها الفساد، فلم يكن ذلك بسبب الإيمان بالغيب، إنما كان بسبب الانحراف عن المنهج الرباني الذي تلقاه المسلمون من عالم الغيب، وأصلحوا به الواقع يوم كانوا مستمسكين به على بصيرة:
{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} 1.
وأما واقعية السبب الظاهر والنتيجة الحتمية ونفي القدر الرباني المهيمن على الأمور، فقد لجأت إليه أوربا كذلك لذات الظروف السيئة التي مرت بها في قرونها الوسطى المظلمة.
كان يقال للناس في أوربا في جاهلية الدين الكنسي المحرف في القرون الوسطى إن الواقع السيئ الذي يعيشونه قدر من عند الله لا يمكن تغييره ولا ينبغي كذلك تغيره، لأن محاولة التغيير هي تمرد على قدر الله!
فلما حطمت أوربا نير الكنيسة قامت تحاول تغيير الواقع السيئ فلم تجد أنها مغلولة اليد عن التغيير بسبب قدر الله! ثم وجدت أن أحوالها الجديدة خير بكثير -في كل اتجاه بحسب ظنها- من واقعها السيئ الذي كانت تعيشه من