ومزية هذه الواقعية أنها تأخذ الواقع البشري غير مخدوعة فيه، وغير مفترضة أن الإنسان ملك بلا نوازع ولا شهوات تقعد به وتثقله وتشده إلى الأرض. ولكنها في الوقت ذاته لا تترك هذا الواقع على حاله حين يهبط ويتدنى، إنما تعمل دائمًا على رفعه دون كبته ولا قسره على ما ليس في طبيعته، حتى تصل به إلى أقصى ما في طاقته من قدرة على الارتفاع. وهي قدرة غير قليلة في الحقيقة حين يلتفت الإنسان إلى تربيتها وتنميتها، أو "تزكيتها" بالتعبير القرآني الجميل.
هذه الواقعية التي تقول للمؤمنين: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} 1 فتقر الواقع على صورته الدنيا، ثم تعمل على رفعه فتقول: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} 2 حتى تصل إلى تلك النماذج العالية من المقاتلين في سبيل الله، اللذين {يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} 3 والذين يقول أحدهم وهو يرمي تمرة كان يتبلغ بها: لئن بقيت حتى أنتهى من هذه إن هذا لأمر يطول!
والتي تقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} 4 فتصف الواقع على صورته الدنيا، ثم تعمل على رفعه فتقول: {أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ} 5 حتى تصل إلى تلك النماذج العالية: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ} 6.
والتي تقول: {وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ} 7 فتصف الواقع على صورته الدنيا، ثم تعمل على رفعه فتقول: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 8 حتى تصل إلى تلك النماذج الشفيفة: {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} 9.
وبذلك تكون واقعية تمامًا، ولكنها تتعامل مع الإنسان في واقعه الأعلى، ولا تقنع -كالجاهلية المعاصرة- بالواقع الأدنى، الذي يظل يتدنى كلما