وأما الإتقان -الذي هو قرين الخبرة وثمرتها- فيقول عنه صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه" 1.
وأما إنفاق الجهد في الجاد النافع من الأمور فيقول عنه: "إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفسافها" 2.
فيضع بتلك التوجيهات وأمثالها دستورًا شاملًا للعمل، هو جزء من منهج التربية الإسلامية في مرحلة النضوج خاصة، وقد ظلت الأمة الإسلامية تحافظ على هذه التوجيهات بقدر محافظتها على الروح الإسلامية الحقيقية، فكانت من أعظم الأمم إنتاجًا, ومن أعظمها ثرورة, ومن أعظمها خبرة وإتقانًا. فلما انحرفت انحرف مفهوم العمل عندها كما انحرف غيره من المفاهيم. فقعد الناس عن العمل وانصرفوا عن الحياة الدنيا، وكان هذا رد فعل للترف الذي تفشى في المجتمع الإسلام في المشرق والمغرب، مما أدى في النهاية إلى ضعف الإنتاج بصفة عامة، وضعف الأمة الإسلامية وتخلفها، في الوقت الذي أخذت قوة أعدائها المادية تتزايد على الدوام.
وكلا الأمرين: الترف من ناحية، والانصراف عن العمل في الحياة الدنيا من ناحية أخرى، مخالف لروح الإسلام، وانحراف عن التربية الإسلامية الصحيحة. إنما يربي الإسلام أبناءه على العمل الجاد الهادف، الذي يعين على عمارة الأرض بمقتضى منهج االله.
وحقيقة إن الإسلام يستحث على التخفف من متاع الأرض، لكي لا يثقل المتاع بالنفس فتركن إلى الدنيا وتنسى الآخرة، أو تنصرف عن الجهاد في سبيل الله:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ} 3.
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً