لقد كان ذلك المسلم أعمق روحانية بكثير من ذلك الذاكر في خلوته، أو القائم بشعائر التعبد فحسب. فإن حمل هذه الروحانية والتحرك بها دون أن تتناثر أو تغيض أعمق بكثير وأهم بكثير من حملها في حالة السكون.

حقيقة إن حملها في حالة السكون هو ذاته مرحلة من مراحل الروحانية والشفافية تحتاج إلى جهد ومجاهدة حتى يصل الإنسان إليها, ويصبر عليها ويستسيغها فلا تعود نفسه تتفلت منها. ولكن كم يدل على عمق الروحانية وتمكنها من النفس أن تتحرك في واقع الأرض, وأنت محافظ عليها لا تتفلت منها نفسك ولا تعرض عنها "للتفرغ" إلى العمل؟

إنها لا شك درجة أعمق وأقوى، وأجدر بمحاولة الوصول إليها. ولقد كانت هي سر عظمة ذلك الجيل، أو من أسرار عظمته الأصيلة، التي من أجلها استحق ذلك الوصف الرباني الكريم: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} 1.

والخلوة لا شك ضرورية بين الحين والحين. ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل ليخلو إلى ربه، وهو الموصول القلب لا يغفل عن ذكر الله لحظة، لأن ناشئة الليل -كما علمه ربه- {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا،} 2.

ولكن العظمة الحقيقية هي أن يظل الإنسان في روحانيته، كلها أو بعضها، حين يقوم يمارس العمل في واقع الأرض. فلا يشغله العمل عن الروحانية ولا تشغله الروحانية عن العمل. بل تكون الروحانية هي التي تحفزه إلى العمل وإلى التمكن منه على أعلى الآفاق!

هل رأيتهم -جيل الصحابة رضوان الله عليهم- وهم يقاتلون؟ هل رأيتهم وهم يضربون في مناكب الأرض؟ هل رأيتهم وهم يتزوجون وينسلون؟ هل رأيتهم وهم يقيمون السوق في المدينة ويروحون ويجيئون في التجارة. إلخ؟. هل تظن أحدًا من أهل الدنيا المتفرغين لها كان أشد منهم وطأة أو أشد تمكنًا في عمله منهم؟! ومع ذلك كانوا يحملون ذلك النور الصافي في قلوبهم،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015