الفريدة من البشر، التي تربت تربية كاملة على المنهج الإسلامي، ليلفت نظرنا بشدة إلى حقيقة إسلامية رئيسية، هي أن وجدانات القلب وحدها، والتذكر والتفكر والتدبر، كلها لا تكفي وحدها لإقامة الحياة الإسلامية والحركة الإسلامية.
إن النص القرآني يعرض صورة شفيفة وضاءة "لأولي الألباب" الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم ويتفكرون. ويعرض صورتهم وهم يتضرعون إلى الله ضراعة حارة أن يكفر عنهم سيئاتهم ويغفر لهم ذنوبهم ويدخلهم الجنة. ثم يقرر النص أن الله قد استجاب لضراعتهم فكفر عنهم سيئاتهم وغفر لهم ذنوبهم وأدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار. فمتى استجاب سبحانه؟ هل استجاب للتذكر والتفكر والتدبر؟ أو استجاب للضراعة الإيمانية الحارة؟ إنه استجاب سبحانه حين تحول هذا إلى عمل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} .
فالدرس إذن هو أن تتحول الأفكار والمشاعر إلى عمل مشهود في واقع الأرض.
والتربية الروحية الصحيحة ينبغي أن تهدف إلى ذلك، فلا تكتفي بذكر اللسان والقلب، ولا بالشعائر التعبدية لتعميق الإيمان. إنما تسعى إلى تكوين تلك الصورة الشفيفة التي يصفها القرآن. أن يحدث الذكر بالعمل, وفي أثناء العمل لا بالشعائر التعبدية وحدها ولا في عزلة عن العمل الواقعي.
لقد كان ذلك المسلم يذكر الله فيجاهد في سبيل الله بماله ونفسه؛ لأن الله الذي يذكره بلسانه وقلبه يأمره بذلك. وكان يذكر الله فيتحاكم إلى شريعته، لأن الله الذي يذكره يأمره بذلك. وكان يذكر الله فيعد ما استطاع من قوة ومن رباط الخيل لإرهاب عدو الله. وكان يذكر الله فيطلب العلم. وكان يذكر الله فيضرب في فجاج الأرض يبتغي من رزق الله وفضله. وكان يذكر الله فيقوم بعمارة الأرض. وكان يذكر الله فينشر الدعوة. وكان يذكر الله فيحتمل الأذى في سبيل الله. ثم يظل -وهو يؤدي هذه الأوامر الربانية كلها- ذاكرًا لله، موصول القلب بالله. وهذا هو سر عظمتهم الفذة التي لا مثيل لها في التاريخ..