ولئن كان بعض هذا كله يأخذ صورة ذهنية فلسفية جدلية، إلا أن جانبًا آخر منه يأخذ صورة روحية وجدانية عميقة.
والشباب -بغير توجيه سليم- يتعرض في هذه الفترة أحيانًا للشك "الفلسفي" في قضايا الألوهية والوحي والبعث والنشور والحساب والجزاء. ولكنه حتى عندئذ يعاني قلقًا "روحيًّا" لا ذهنيًّا فحسب. لأن الجانب الروحي في كيانه متفتح وفي حالة نشاط. وحين لا يجد الزاد الصحيح فإنه يضطرب ويختل، ويكون القلق هو العارض الدال على ذلك. ولكنه حتى في حالة اضطرابه موجود ومؤثر ومتأثر في ذات الوقت.
إن هذا التفتح الروحي -في حالته السوية- يحدث صلة عميقة جدًّا بالله، ثم بالكون والحياة والأحياء.
صلة بالله تظهر في التفكر والذكر والعبادة والرغبة القوية في التقرب إلى الله بالنوافل وبصالح المشاعر وصالح الأعمال.
وصلة بالكون والحياة والأحياء تشعر الإنسان أن الحياة منبثة في تضاعيف هذا الكون كله، وأنه هو جزء من هذا الوجود الحي، مترابط معه، موصول، متصاحب معه، وليس جزءًا معزولًا عنه ولا معاديًا له.
وحتى في حالة الضلال فقد يوجد هذا التدفق الروحي كله في صورة وثنية ضالة، تعبد الله على ضلالة، وتعبد الكون في صورة "عبادة الطبيعة" وتنحرف إلى ألوان من التقديس للحياة والأحياء.
ولكنها في هذه وتلك طاقة روحية أكيدة، عميقة الوجود في الكيان النفسي في تلك الفترة بالذات.
والجاهلية المعاصرة -وحدها تقريبًا في تاريخ الجاهليات- هي التي تعمل جاهدة على طمس طاقة الروح وتجريد الإنسان منها حتى في صورتها الوثنية الضالة، ليصبح بعد ذلك حيوانًا هابطًا أو آلة صماء.
وهي درجة من الانحراف نحسبها فريدة في تاريخ البشرية. فحتى اليهود في جاهليتهم المادية التي غرقوا فيها، كانت لديهم حين جاء الإسلام بقية -منحرفة- من طاقة الروح استخدموها في السحر:
{وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ، وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا