أي حال فإن مطالب الأطفال جميعًا في تلك المرحلة متقاربة ومتشابهة، وإن اختلفت الطبائع والأمزجة كثيرًا فيما بعد. كل الأطفال يطلبون الحب والحنان والرعاية والأمن في حضن الأم أو قريبًا منها. والأم بفطرتها تعطي ذلك الحنان والحب. وتؤدي تلك الرعاية المطلوبة. ولكن الجاهلية الحديثة تسيرها ضد فطرتها وضد حاجة الطفل الفطرية حين تفرض عليها أن تعمل، وأن توزع نفسها بين مطالب العمل ومطالب الأمومة، وهي مطالب متضاربة في الوقت والجهد والاتجاه النفسي والعصبي كذلك! ثم تروح تزعم أنها تعمل على حل مشاكلها بتيسير المحاضن لأطفال الأم العاملة! وما أبأسه من حل، يضيف إلى تعاسة الأم العاملة وتوزع وقتها وجهدها وطاقتها العصبية مشكلة التشرد النفسي لأطفال المحاضن، الذي تنشأ عنه أجيال مشردة من الشباب، تصنع في نفسها ما نراه اليوم من ألوان الانحراف والفساد!
والأم المسلمة -في المجتمع المسلم- في ظل الدولة المسلمة التي تطبق شريعة الله ومنهجه في الحياة- عليها أن تدرك هذه الحقيقة إدراكًا واضحًا عميقًا: أن الطفل -في سنواته الأولى على الأقل- يحتاج إلى أم متخصصة لا يشغلها شيء عن رعاية الطفولة وتنشئة الأجيال. وأن كل أمر تقوم به خلافًا لتدبير أمر البيت ورعاية أطفاله إنما يتم على حساب هؤلاء الأطفال, وعلى حساب الجيل القادم من البشرية. فأما حين تكون الضرورة قاهرة فهي الضرورة القاهرة، نخضع لها بلا اختيار. وأما التطوع بالفساد بغير ضرورة ملجئة فهي الحماقة التي ترتكبها هذه الجاهلية باسم التقدم والعلم والحضارة في القرن العشرين! وكل الضرورات الاقتصادية التي افتعلتها هذه الجاهلية لإكراه المرأة على العمل، أو لإعطائها المبرر الظاهري لهجر البيت والخروج إلى الشارع للفتنة.. كلها لا تبرر ذلك الدمار الذي يصيب البشرية في أنفسها من جراء إلغاء وظيفة "الأم المتخصصة" من المجتمع، ووضع "الأم العاملة" بدلًا منها، أي: الأم الموزعة الجهد والوقت والأعصاب.. وذلك فضلًا على أنها ضرورات مفتعلة وغير حقيقية؛ إنما خططها الشياطين, وعقدوها ليزعموا أنه لا حل لها إلا تشغيل المرأة. وما أيسر الحل لو أرادت الجاهلية الحل بالفعل {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} ! فرفع تكاليف الحياة ليس "تطورًا حتميًّا" وإنما هو من صنع رأس المال المسيطر اليوم على البشرية، كما أن عمل المرأة ليس هو حله