التربية والتوجيه عليهما أن يستخلصا خير ما فيه، ويقوما ما قد يكون فيه من انحراف أو غلو.
وحين لا تكون هناك تربية، أو حين تكون التربية والتوجيه فاسدين، فإن انحرافات العامل الوراثي تتأكد بدلًا من أن تقوم، وتبرز بدلًا من أن تسوي. فيخيل الناس حينئذ أن الوراثة هي الغالبة وهي الحاسمة في تكوين الشخصية.
وليس الأمر في حقيقته كذلك، إنما يكون كذلك -كما قلنا- حين تترك الوراثة وشأنها دون توجيه. وكل شيء يترك وشأنه لا بد أن يستفحل وأن يصل إلى غاية مداه، لا لأنه هو في طبيعته بهذه القوة وهذا العنف، ولكن لأنه لا يجد عائقًا يعوقه أو يشذبه وهو ماض في طريقه.
شجرة اللبلاب من أضعف الشجر عودًا لأنها شجرة متسلقة لا تستطيع أن تعتمد على ذاتها، ولا بد أن تستند إلى شيء تتسلقه وتنمو من فوقه ... ولكن كيف تصبح حين تأخذ مداها من النمو والتسلق والتشابك بمداداتها التي تشتبك عن طريقها بالأشياء؟! إنها تسد عليك الطريق، ولا تستطيع المرور من خلالها إلا بالجهد!
وقريب من ذلك أمر الوراثات الموروثة في نفس الطفل.. قد لا تستطيع اقتلاعها البتة، ولكنك تستطيع ولا شك أن تقومها وتشذبها وتخفف من غلوائها، ولو استلزم ذلك بعض الجهد. وكلما بدأت بالتقويم مبكرًا زادت أمامك فرصة الإصلاح. ولكنك إن تركتها حتى تستفحل فقد يصعب الأمر عليك. ولكن الذي نريد أن نؤكده هنا -مع ذلك- أن التقويم -في أي سن وفي أية ظروف- ليس مستحيلًا على الإطلاق وإن اقتضى المزيد من الجهد. وشهادة التاريخ الكبرى في هذا الشأن هي التحول الضخم الذي حدث في نفوس المسلمين الأوائل حين انتقلوا من الجاهلية إلى الإسلام، بكل وراثاتهم وبكل انحرافاتهم المكتسبة في الجاهلية. وأبرز صفحة في هذه الشهادة جميعًا هي صفحة عمر بن الخطاب!
فأين عمر في الإسلام من عمر في الجاهلية؟ أين جفوة القلب وخشونة الحس والعناد الأصم من رقة عمر حين أسلم، ولين جانبه إلى الحق وانعطافه إليه، وحساسيته المرهفة وبكائه لآلام الناس؟
ومع ذلك فإن الطابع العام لعمر رضي الله عنه ليس هو الذي تغير، وما