الطبائع والأمزجة لحكمة يريدها سبحانه، لكي تتنوع الحياة البشرية وتثرى، ولا يكون الناس نسخة واحدة مكرورة كالدودة أو الجرثومة أو الحيوانات الدنيا. والحيوانات العليا ذاتها حين ينعم الإنسان النظر في حياتها يجد فروقًا ظاهرة بين فرد من أفرادها وفرد, ولو كانت كلها من نوع واحد، كأن التنوع ذاته سمة من سمات الرقي في عالم الخلق. فكيف بالإنسان أعلى مخلوقات الله في الأرض وأكرمها على الله:
{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} 1.
إن هذا الإنسان أولى بالتنوع، وأولى بأن يكون التنوع سمة أصيلة من سماته، ثم إن الخلافة التي أقام الله بها الإنسان في الأرض، قد اقتضت في علم الله أن تكون الحياة البشرية متعددة الجوانب فسيحة الآفاق؛ واقتضت كذلك أن تكون طبائع البشر متنوعة متعددة ليقوم المجموع البشري بمهمة الخلافة، كل من موقعه وزاويته، وكل بالجانب الأبرز في كيانه، فهذا يصلح للسياسة وهذا يصلح للحرب, وهذا يصلح للفكر, وهذا يصلح للقول, وهذا ذو طبيعة عملية, وهذا ذو طبيعة نظرية ... وهكذا وهكذا تتعدد الطبائع وتتعدد الوظائف في مهمة الخلافة الشاملة الهائلة.
كلا! ما يقول أحد إنه من الخير -حتى إن كان من الممكن- إلغاء الوراثات التي تطبع الطفل بطابعها المتميز وتعطيه شخصية متميزة وقدرات وميولًا واتجاهات متميزة.
إنما تقول فقط إن التربية والتوجيه من واجبهما -وهما قادران على هذا الواجب- أن يقوما انحرافات تلك الوراثات ويخففا من غلوائها حين تكون ذات طبيعة حادة متجاوزة للقصد.
ومن هنا يكون البيت والشارع والمدرسة والمجتمع هي ذات الأثر الحقيقي والحاسم في تنشئة الأطفال، مع عدم إغفال العامل الوراثي على الإطلاق، بل مع توكيد وجوده وتوكيد أهميته في الحياة البشرية. وذلك على الصورة التي بيناها، وهي أن العامل الوراثي أصيل في النفس، ومطلوب لذاته، ولكن