وقد تغيرت ولا شك مظاهر كثيرة منذ ذلك الحين.
كان المسجد هو مكان الصلاة ومكان الدرس ومكان الحكم في قضايا الناس، ومكان الإفتاء فيما يعن لهم من أمر، ومكان المؤتمرات السياسية والحربية والاقتصادية والاجتماعية إلخ.
ولم يعد ذلك في الإمكان اليوم؛ فقد اتسعت رقعة الحياة من ناحية، واتسع "التخصص" من ناحية أخرى حتى أصبح لكل شأن من هذه الشئون مكان، بل أكثر من مكان.
ولم تكن هناك وسيلة إعلام إلا التقاء الناس بالحاكم أو المسئول وجهًا لوجه. واليوم توجد صحافة وإذاعة وسينما وتلفزيون وكتاب.
وكانت التربية تتم في يسر -نسبي- بعد انحلال عقدة الشرك ودخول الناس في الإيمان، لأن الجاهلية الأولى -رغم شركها- كانت تحتوي على خصال كثيرة مفتقدة في الجاهلية الحاضرة. كان الناس يأخذون الأمور بجد أكثر. وكانت فيهم استقامة في الطبع، إن قالوا نعم فهي نعم، وإن قالوا لا فهي لا، ولم يكونوا يراوغون في التواء كما تراوغ الجاهلية الحضارة وكانت وسائل الفتنة في المجتمع أقل خطرًا وفتكًا مما هي اليوم. فهي محصورة في أماكنها، من شاء ذهب إليها ومن شاء لم يذهب. ولم تكن تأخذ بتلابيب الناس في البيت وفي الشارع وبالكلمة والصورة والعري المتفنن في الفتنة كما هو الحال اليوم. كما كان من خصال تلك الجاهلية "التوقير" الذي يتعامل به المجتمع، سواء توقير الصغير للكبير، أو توقير "القيم" التي يقتنعون بها، بينما الجاهلية الحاضرة قائمة أساسًا على "عدم التوقير" لأي قيمة أو أي شيء على الإطلاق.
تلك كلها فروق تفصيلية ستجابهنا عند تطبيق منهج التربية الإسلامية، سواء كان القائم بالتطبيق هو الدولة أو الجماعة التي تنتدب نفسها للدعوة. وستحتاج منا إلى استحداث وسائل للتربية، أو تطبيقات لم تكن قائمة أولم تكن ضرورية من قبل.
ولكن هذه الفروق التفصيلية كلها لا تغير شيئًا في المنهج وروحه.
إنها تشبه تصرف الفقه الإسلامي في تطبيق الشريعة: الشريعة ثابتة لا تتغير، والفقه دائم النمو ليواجه حاجات كل عصر.