ولكن الجيل الأول الذي يحمل تبعات التأسيس والبناء لا يصلح أن يكون كذلك، فإن حمله أثقل ومهمته أخطر.
حمله أثقل لأنه يواجه الجاهلية بضراوتها وإصرارها على إبادة الدعوة. ويواجه احتمالًا راجحًا إن لم يكن أكيدًا بالتعرض للحرمان من متاع الأرض المباح، بل للحرمان من حياته ذاتها بكل ما فيها من متاع.
ومهمته أخطر لأنه لا يطلب منه أن يكون مجرد مسلم عادي، إنما يطلب منه أن يكون نموذجًا يحتذى، لأن أنظار الناس متعلقة به تأخذ منه القدوة، فإن كان هو هابطًا، أو واقفًا على حرف يكاد يهبط، فهو نموذج سيئ وقدوة سيئة.
فلكي يكون قادرًا على حمل تلك التبعة الثقيلة بشقيها: مواجهة التكاليف الباهظة بنفس راضية، والارتفاع إلى مستوى القدوة، فإنه يلزمه تدريب من نوع خاص، يتعود فيه على الحرمان من متاع الأرض، ويتعود فيه على التخفف من جواذب الأرض، والقدوة على الانفلات منها في لحظة حين يدعو إلى ذلك داع.
ومع أن الإيمان باليوم الآخر يصنع صنيعه في النفس المؤمنة، وييسر عليها احتمال حرمان الأرض في سبيل رضا الله، إلا أن الإيمان درجات والمطلوب لدور البناء والتأسيس ينبغي له أن يكون على الدرجة العليا من الإيمان. وهذا هو الذي يحتاج إلى التدريب الخاص، حتى يكون -على المستوى العملي- مستعدًّا للانخلاع من متاع الأرض في لحظة، بلا توجع ولا تحسر ولا لهفة.
في هذا التدريب الخاص -داخل الابتلاء- يبعد الإنسان عن متاع الأرض على غير اختيار منه. وقد يكون على غير رضا منه في مبدأ الأمر! ثم تمر الأيام وتطول المحنة بالشهور والسنوات.. فماذا يحدث من تحولات في داخل النفس؟
إنه -في الحقيقة- يحدث شيء كثير!
يحدث أولًا أن يكشف الإنسان في نفسه طاقة على الصبر والاحتمال, لم يكن يظنها موجودة في نفسه، أو لم يكن يظنها بهذا القدر. وفي هذا تثبيت له