طويل حتى يصبح عادة تلقائية، ويحتاج إلى عمل دائب لغسل رواسب الجاهلية من النفس. وهي رواسب لا تذوب في لحظة لأنها متشابكة مع خيوط النفس وداخلة في بنائها. كالبقعة الداخلة في النسيج. ربما تغسلها مرة فتذهب. وربما تحتاج إلى غسلات كثيرة حتى تذهب، وربما تظل تغسلها حتى يبلى الثوب وهي تخف قليلًا ولكنها لا تذوب!

كان المربي الملهم يعلم ذلك من النفس البشرية فيصير على أصحابه. ولا يتعجل جذبهم إلى القمة التي يقف هو عليها بعون من الله. وكان يتخولهم بالنصيحة المرة تلو المرة في غير إملال مضجر ولا تهاون في أمر الله.

وسارت هكذا الأمور حتى جاء الابتلاء.. وما كان من الممكن ألا يجيء! إن الجاهلية لا يمكن أن تصبر أبدًا على دعوة لا إله إلا الله! ولم يحدث قط في التاريخ أن جاهلية صبرت على هذه الدعوة أو هادنتها ولو لم تتعرض الدعوة لها بشيء من جانبها!

لقد قال لهم شعيب: {وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ، قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} 1.

هكذا. لا يقبلون حتى المهادنة حتى يحكم الله في الأمر.

وهذا الموقف الذي تقفه الجاهلية دائمًا -ولا بد أن تقفه ما دامت جاهلية- لا يأتي اعتباطًا، ولا يأتي من ظروف محلية خاصة بالمكان أو الزمان أو البيئة أو أشخاص الحكام أو أشخاص الدعاة, إنما يأتي من طبيعة الدعوة ذاتها ومن طبيعة الجاهلية.

فما الدعوة؟ وما الجاهلية؟

الدعوة تقول لا إله إلا الله. والجاهلية تقول -بقولها أو فعلها- هناك آلهة مع الله، وهناك سلطان بشري يحكم الناس باسم هذه الآلهة المدعاة.

والدعوة تقول إن الولاء لله وحده. و"الملأ" صاحب السلطان في الجاهلية يريد الولاء لنفسه وسلطانه، ومن هنا ينشأ الصراع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015