وإذا كان كل تلميذ في العادة يقبس قبسة من أستاذه، فلنا أن نتصور كيف تكون القبسات حين يكون الأستاذ هو الرسول صلى الله عليه وسلم. وإذا كان المنهج يترك طابعه فيمن يتربون عليه. فلنا أن نتصور كيف يكون الطابع حين يكون المنهج هو القرآن.
ولقد كان كذلك.
وخرجت على هذه التربية خير أمة أخرجت للناس. الأمة التي تركت بصماتها على التاريخ كله من بعدها، وتركت فيه آثارًا لا تزول.
ولم يتم هذا دفعة واحدة. فالتربية عملية طويلة تستغرق السنوات الطوال.. ولقد استغرقت ثلاث عشرة سنة في مكة، وسنوات في المدينة، حتى وصلت إلى الدرجة التي استحقت فيها ذلك الوصف من خالقها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} 1 وكانت مع ذلك ما تزال تكبو أحيانًا كما كبت في أحد ويوم حنين، ثم تقوم من كبوتها على درس من الدروس القرآنية البليغة، لتصعد قمة جديدة من قمم البشرية الشامخة.
كذلك لم يتم هذا كله في أمن ودعة. ولعله ما كان يمكن أن يتم.. فالله العليم الخبير. الذي فطر هذه الفطرة البشرية، يعلم أنه لا بد من الشدة تشدد العزائم، ولا بد من المحنة تعرك النفوس.
ولكن الذي تم من أول لحظة هو ذلك الحب العميق لله ورسوله، والالتقاء على حب الله ورسوله، والاستعداد العميق للتلقي من الله ورسوله، ونبذ التلقي من أي مصدر آخر في الوجود.
وتلك كانت القاعدة الضرورية التي تنشأ عليها التربية الإسلامية فتؤتي ثمارها المرجوة. ومنذ اللحظة الأولى تكونت هذه القاعدة في نفوس المؤمنين، فأهلتهم أن يتلقوا من أعظم مرب في التاريخ، وأهلتهم أن يستوعبوا هذه التربية بكاملها، خطوة بعد خطوة وتوجيهًا بعد توجيه. حتى استقامت نفوسهم على أفقها الأعلى. وكانت منهم تلك النماذج من البطولة في كل جانب من جوانب الحياة. وهذا الحشد من الأبطال، الذي لم يحتشد بهذه الوفرة في تاريخ أمة على مدى التاريخ..