هو في ذاته شخصية فائقة التكوين. متفوق عقليًّا أو روحيًّا أو نفسيًّا أو عصبيًّا أو أخلاقيًّا.. ولكنه -لسبب ما- لا يستطيع أن يعطي التجربة الواقعية. لأنه عزوف عن الناس. لأنه صاحب تجربة فكرية فقط بغير رصيد من التجربة الواقعة. لأنه رجل "مثالي" حالم يحلم بالمثل ولا يمارس التطبيق الواقعي أو لا يحسنه. إلى غير ذلك من الأسباب التي تشكل عيبًا في الشخصية, ولكنها لا تمنعها أن تكون كبيرة، أكبر من شخصية المتلقي، ومع ذلك تعجزها عن القيام بدور التربية والتوجيه. ومن الأمثلة المعهودة أن تجد أستاذًا جامعيًّا ممتازًا في علمه, ممتازًا في خلقه، ممتازًا في محاضرته. ومع ذلك فهو لا يستطع أن يربي، ولا أن يكون جيلًا من "التلاميذ" بمعنى الحواريين والأتباع.
وينبغي ثالثًا أن يكون المربي -بالإضافة إلى كبر شخصيته "بالنسبة للمتلقي" وإلى أن عنده ما يعطيه- ينبغي أن يكون حسن الإعطاء.
فمجرد أن يكون لديه ما يعطيه ليس كافيًا في شئون التربية، إنما ينبغي أن يعطيه بطريقة حسنه كذلك، وإلا ضاع الأثر المطلوب أو انقلب إلى الضد، حين يعطي المربي ما عنده بطريقة منفرة.
{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} 1.
نعم ينبغي أن يكون التقديم في صورة ترغب المتلقي في أن يتلقى، لا في صورة تنفره من التلقي.
والضمان الأول لذلك هو الحب؛ فما لم يشعر المتلقي أن مربيه يحبه، ويحب له الخير، فلن يقبل على التلقي منه ولو أيقن أن عنده الخير كله. بل لو أيقن أنه لن يجد الخير إلا عنده! وأي خير يمكن أن يتم بغير حب؟!
ولكن الحب وحده كذلك لا يكفي. فقد تحب طفلك وتحب له الخير، ولكن طريقتك في تقديم الخير إليه تشككه في حبك له، وتوهمه أنك تكرهه، وأن توجيهاتك له صادرة عن البعض لا عن الحب، لأنك تقدمها إليه في صورة فظة لا رفق فيها ولا لين. من أجل ذلك يمن الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بهذه الموهبة النبيلة في شخصه الكريم: