وأنه منه -بالطبيعة- في موقف الآخذ المتلقي، لا في موقف الند، ولا في موقف أعلى من موقف المربي!
وتلك حقيقة نفسية تعمل عملها تلقائيًّا في النفوس! فأنت لكي تتلقى، لا بد أن تقتنع أنك في موقف المتلقي، وإلا فلو أحسست أنك أنت في الموقف الأعلى فما الذي يدفعك أن تتلقى من شخص بعينه من الناس؟
والعلو أمر شامل يشمل مسائل كثيرة في وقت واحد، ويختلف من وضع إلى وضع. فقد يكون علوًّا روحيًّا، أو يكون تفوقًا عقليًّا، أو يكون تفوقًا أخلاقيًّا، أو نفسيًّا، أو عصبيًّا. أو حتى جسديًّا في بعض الأحيان، وتلك كلها من عناصر "الشخصية" الإنسانية، تزيد أو تنقص في كل شخص، وتكون في مجموعة ما نطلق عليه "شخصية الإنسان" فنقول باختصار: إن شخصية المربي ينبغي أن تكون أكبر من شخصية الذي يتلقى التربية على يديه.
وبهذه المناسبة نقول: إنه مما ييسر على جميع الآباء تربية أطفالهم في السنوات الأولى أن شخصيتهم تكون -بالطبيعة- أكبر من شخصية أطفالهم، فيتلقى هؤلاء عنهم في سهولة طبيعية. ولكن تبدأ بعد ذلك المشاكل! فكلما كبر الطفل احتاج أن تظل شخصية الوالدين أكبر منه، وهنا يسقط بعض الآباء في الاختبار، إما لأن شخصياتهم ليست أكبر من أبنائهم بالقدر الكافي، وإما لأنها ليست أكبر منهم على الإطلاق! بل يحدث في أحيان نادرة أن يحس الطفل -الكبير- أن شخصيته أكبر من شخصية والديه، وهنا يرفض التلقي منهما ويتمرد عليهما!
أما بالنسبة لتربية الكبار فالأمر أشق وأدق. فهو محتاج إلى "قيادة" وإلى "زعامة"، يحس الكبار أمامها أنهم أصغر من قائدهم، وأنهم في موقف التلقي منه لا في موقف الند ولا في موقف التوجيه.
وينبغي أن يحس المتلقي ثانيًا أن مربيه -بالإضافة إلى أنه أكبر شخصية منه- عنده ما يعطيه.
فليس يكفي أن تكون شخصية المربي أكبر من شخصية المتلقي -وهي البديهية الأولى في عالم التربية- إنما ينبغي كذلك أن تكون عنده حصيلة يعطيها للآخرين في صورة تجربة واقعة.
هناك شخصيات كبيرة لا تستطيع أن تعطي، ومن ثم لا تستطيع أن تربي.