بلى! ولكن على أي شيء كان يجتمع الناس في مجتمع الجاهلية، وفيم يجتمع اليوم مع إخوته في الله ورسوله؟
ألا إنها إذن هي الأخوة هنا.. حيث لم تكن هناك.
لقد كان يجتمع مع لدات له من قبل في المجتمع الجاهلي. ففيم كانوا يجتمعون؟ يسمرون مثلًا.. في لحظات الصفاء؟ نعم! ولكن كل منهم مشغول بذاته. مشغول بإبرازها خشية أن يبرز أحد ذاته أكثر منه، فيتميز في المجلس بشيء!
أو.. ينسون أنفسهم في مجلس لهو وشراب فارغ الحديث!
أو يلتقون أو يتصارعون على مصالح التجارة!
أو يلتقون في حلف قبيلة وقبيلة ضد غيرها من القبائل، فيدبرون معًا خطة العدوان!
أو يروون الشعر أو يتفاخرون بالأنساب!
تلك دنيا لقائهم.. وتلك مشاعر اللقاء..
أما اليوم فشيء آخر لم يذق طعمه من قبل أبدًا.. إنها الأخوة.. إنه الحب.. إنه الترابط والالتصاق!
يالله! كيف لم يدرك من قبل وهو في جاهليته أن تلك المشاعر التي يتبادلها مع أقرانه ولداته ليست صافية حقًّا، وإنما يشوبها الهوى، وتشوبها المصلحة، ويشوبها حب كل منهم لذاته وحرصه على إبرازها؟
لقد كان يمارس تلك المشاعر من قبل فلا يحس بكدرها، ويظنها -هكذا- صافية رائقة رائعة. ويتحدث بهذا في شعره على أنها مثل عليا في مكارم الأخلاق! واليوم، وقد رأى الصفاء الحقيقي وأحسه، ومارس مشاعر الأخوة مع إخوته في الله ورسوله.. اليوم فقط يدرك حقيقة مشاعر الأمس، ويدرك أن أعلاها وأروعها لم يكن صافيا في الحقيقة إنما كان مشوبًا بالأكدار!
هنا مشاعر من لون جديد في هذا المجتمع الجديد.
لا مصالح هنا ولا تجارة ولا لهو ولا سمر يجنح فيه كل واحد إلى إبراز الذات.
هنا حب.
كل منهم يحب الله ورسوله، ثم يلتقي بأخ له يحب الله ورسوله، فتتعانق