وإن القسم الأكبر من السور المكية منصب على التعريف بحقيقة الألوهية، والقسم الأكبر من التعريف بحقيقة الألوهية منصب على عرض آيات القدرة القادرة التي لا يعجزها شيء في السموات ولا في الأرض، في الخلق ثم في الموت والحياة، وإحداث الأحداث وتدبير الأمر وعلم الغيب.
وتلك هي منافذ العقيدة الفطرية التي أودعها الله في الفطرة لتتنبه إلى خالقها، وتتوجه إليه بالعبادة.
{وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} 1.
ولا نعلم نحن كيف أخذ الله على البشر ميثاق الفطرة ولا متى تم ذلك.
ولكننا نعلم أن في الفطرة هذه المنافذ، تلجئها إلجاء للبحث عن الخالق والتوجه إليه. فالكون بضخامته الهائلة، وبدقته المعجزة التي لا يختل فيها شيء قيد شعرة, وظاهرة الموت والحياة, وظاهرة حدوث الأحداث وتواليها, ورغبة الإنسان في معرفة الغيب وعجزه عنها، ورغبته في السيطرة على كل شيء وعجزه عنها؟ كل أولئك يوقظ الفطرة إلى وجود الخالق الذي خلق الكون بضخامته وبدقته، والذي يحيي ويميت، والذي يحدث الأحداث ويدبر الأمر، والذي يعلم الغيب، والذي لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض.
ولكن حس الإنسان يتبلد بالإلف والعادة، فيفقد التأثر بالشحنة الحية المؤثرة التي تهز المشاعر وتحول السلوك. فيجيء القرآن -بطريقته الخاصة- فينفض الركام عن الفطرة، ويزيل التبلد الذي يحدثه الإلف والعادة، كأنما يكشف أعصاب الحس لتتلقى الشحنة كاملة كما تلقتها أول مرة، فيهتز الوجدان وتنفعل النفس. ويحدث الأثر المطلوب! 2 وتلك خاصية القرآن!
والقرآن هو أداة التربية الإسلامية الأولى حين يتلقاه الإنسان بقلب متفتح، فيتلقى منه الشحنة المقدسة التي أودعها الله فيه:
{كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} 3.