يؤكد هذه الدلالة ما قرره القرآن على لسان يوسف عليه السلام بشأن مصر على عهد يوسف:

{إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ، وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} 1.

والمعروف عن المصريين أنهم كانوا "يعرفون" الآخرة، ويؤمنون بأن هناك بعثًا وثوابًا وعقابًا في يوم هائل مروع تصفه كتبهم وكتاباتهم على جدران المعابد والآثار. ولكن القرآن اعتبر معرفتهم هذه غير موجودة، واعتبرهم كافرين بالآخرة بذلك التوكيد الذي يعبر عنه أسلوب القرآن: {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} ، وذلك لأن معرفتهم النظرية المتوارثة عن الآخرة لم يكن لها وجود حقيقي في واقع حياتهم، فهم -مع هذه المعرفة النظرية- يعبدون الفرعون من دون الله. ولو كان علمهم بالآخرة حقيقيًّا وكان يعطي فاعليته الحقيقية، لعبدوا الله وحده، صاحب ذلك اليوم الآخر، ولم يشركوا معه عبادة الفرعون.

المعرفة النظرية الذهنية الباردة الميتة إذن شيء، والمعرفة الحية التي تنبع من الوجدان فتنفعل بها النفس كلها وتعطي تأثيرًا معينًا في السلوك الواقعي شيء آخر، هي ما يطلبه الإسلام بالذات، ويستنبته في قلوب الناس ليصبحوا مسلمين.

وبذلك يزول العجب من ذلك الأمر: أن القرآن سجل على العرب معرفتهم بأن الله هو الخالق المدبر، ثم ألغاها البتة، وبدأ معهم من جديد! لا عجب حين نعلم أن المعرفة الأولى ليس لها أثر واقعي في الحياة, والمعرفة الثانية -الحقيقية- هي ذات الأثر البالغ الحاسم في حياة البشرية.

كيف توصل القرآن إلى استنبات البذرة الحية الجديدة للعقيدة في نفوس المؤمنين؟

إن للقرآن طريقته الخاصة في لمس القلوب واستجاشة وجدانها إلى حقيقة الألوهية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015