وكانت القبيلة هي الوحدة الاجتماعية التي يتعايش بها سكان الجزيرة ويتحركون من خلالها، سلمًا وحربًا وتعاقدًا وتعاهدًا وبيعًا وشراء وتجارة.
ولكن هذه القبيلة كانت تضغط ضغطًا شديدًا على كيان الفرد فينسحق تحت ثقلها، وتنمحي شخصيته في شخصيتها، فيصبح كما يقول الشاعر:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت ... غويت وإن ترشد غزية أرشد
وكانت أعنف عقوبة تفرضها القبيلة على الفرد هي "خلعه" منها، فيصبح "خليعًا" مشردًا لا يكان له ولا وجود!
وكان عرف الآباء والأجداد قوة ساحقة كذلك لا يستطيع أحد الفكاك منها كما وصف ذلك القرآن:
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ} ؟ 1.
{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} 2.
وكان مجتمعًا -ككل مجتمع جاهلي- تحكمه القوة لا الحق. فالذي يملك القوة يحكم، ومن لا يملكها يحكم عليه! وثم يقع التظالم لا محالة:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه ... يهدم ومن لا يظلم الناس يظلم
فالطريقة الوحيدة لدفع الظلم هي البدء بالظلم! ومن هنا كانت الغارات الدائمة بينهم والعدوان المستمر والثأر، وكانت الحمية التي يصفها القرآن:
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} 3.
وكانت الآفاق كلها قريبة كما هي دائمًا في كل جاهلية. محصورة في محيط هذه الأرض، مشغولة بالملذات الحسية، أو بما يؤثر في المكانة الاجتماعية علوًّا وسفلًا، من أموال وبنين، أو ذكر حسن أو ذكر قبيح:
{وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} ! 4.
بل لم يكونوا حتى مشغولين بما كان يشغل بعض الجاهليات الأخرى من