كأنه حي بين ظهرانينا، بل إنه -لفرط عظمته صلى الله عليه وسلم- لا يمكن أن يكون مجرد "شخصية تاريخية" عاشت دورها التاريخي ثم أصبحت مجرد ذكرى أو مجرد تاريخ. وإنما هو -بحيويته الفائقة- يعايش كل جيل من أجيال البشرية معايشة كاملة بقدر ما يتجه ذلك الجيل إلى شخصه الكريم صلى الله عليه وسلم ويستوحي سيرته الحية الزاخرة.

ولئن كان وجوده صلى الله عليه وسلم بشخصه، وتعهده الجماعة الأولى بذاته الكريمة، وهو المربي الذي لم يتكرر في التاريخ. لئن كان ذلك عنصرًا فذًّا أثر في التكوين الفريد لهذه الجماعة، وجعلها لم تتكرر بصورتها الفائقة مرة ثانية، فإن وجوده صلى الله عليه وسلم بشخصه ليس شرطًا لقيام المجتمع المسلم في صورته العادية، ولا تطبيق التربية الإسلامية على مستواها العادي، وإلا فلو كان ذلك شرطًا لما فرض الله على المسلمين إقامة المجتمع المسلم, ولا تطبيق التربية الإسلامية، وهو يعلم -سبحانه- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يخلد في الأرض! ثم إن مجتمع التابعين -وهو جزء من الفترة الفائقة في تاريخ الإسلام- لم يشهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإنما سمع سيرته كما نقرؤها أو نسمعها نحن اليوم، ومع ذلك كان له تفوقه الملحوظ، وكان يمارس التربية الإسلامية على مستواها الرفيع.

عنصر آخر ربما كان من عناصر التفوق الرائع لذلك المجتمع الأول، لم يتكرر في بقية التاريخ.. ذلك هو عنصر "الجدة" فكل حركة جديدة تكون في تكونها وتحركها أنشط وأبلغ من الأجيال التي تخلفها. لأن المولد الجديد يعطيها حيوية غير عادية، ولأنها تمارس البناء خطوة خطوة ودرجة درجة، سواء البناء النفسي الداخلي أو البناء الاجتماعي الخارجي، وتبذل الجهد في كل خطوة وتتحمل المشقة، فتكون حريصة على سلامة البناء، حريصة على صيانته من كل خدش أو تشويه. أما الأجيال التي تجيء بعد ذلك -التي لا تمارس البناء بنفسها، إنما تجده قائمًا بالفعل- فهي أقل حرصًا على سلامته، وأقرب إلى التهاون فيه، حتى يأتي -على طول المدى- ذلك الخلف الذي يصفه القرآن:

{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ

طور بواسطة نورين ميديا © 2015