ثم رجع عن هذا الرأي في ((منع الموانع)) واختار كونها امتناعية فقال: ((واعلم أنّا كتبنا هذا ونحن نوافق الوالد إذ ذاك على ما رآه، ولذلك عبّرنا عنه بلفظ الصحيح، وأما الذي أراه الآن، وأدعي ارتداد عبارة سيبويه إليه، وإطباق كلام العرب عليه، فهو قول المعرَّبين، وقول الوالد: (إنّه منقوض بما لا قبل له) مما لا يَظهَر لي، ... إلى أن قال: ولكنا هنا نَحيد عنه؛ فإن كان خطأً فمنّا ومن الشيطان، وإن كان صواباً فمن الله وببركته رحمه الله، فأقول: مدلول (لو) الشرطية: امتناع التالي لامتناع المقدم مطلقاً)) (?).
هذا وقد امتاز التاج السبكي رحمه الله تعالى بمِيزة أخرى لا تقلّ أهمية عن كونه وقّافاً مع الحق حيث كان ومع أيّ كان، ألا وهي أنّه كان كثير الإنصاف لخصومه الذين يخالفهم في الرأي، ويوجّه النقدَ لاجتهادهم، فهو مع النقد العلمي الموجّه إليهم إلا أنّه لم يكن لينتقصَ من أقدارهم، أو يهتضم حقوقهم، بل كان ينزلهم منازلهم، ويحفظ لهم مكانتهم رغم مخالفته الشديدة لهم في كثير من أفكارهم.
وليس أدل على ذلك من موقف التاج السبكي من شيخه الذهبي، فهو رغم شدة انتقاده له بسبب تحامله على الأشاعرة؛ إلا أنّه ما كان ليذكره إلا بصفات التبجيل والتفخيم والتعظيم.
فهو يقول عنه، محدث العصر، ويقول: ((اشتمل عصرنا على أربعة حفاظ بينهم عموم وخصوص: المزي والبرزالي (?) والذهبي والشيخ الإمام)) (?).
وقد رثاه بقصيدة طويلة أذكر منها:
مَن لِلْحَديثِ ولِلسَّارينَ في الطَّلَبِ ... مِن بَعْدِ مَوتِ الإِمامِ الحافِظِ الذَّهَبي
مَن لِلرِّوايةِ للأَخْبارِ يَنْشُرُها ... بَيْن البَريَّةِ مِن عُجْمٍ ومِن عَرَبِ
مَن لِلدِّرايةِ والآثارِ يِحْفَظُها ... بِالنَّقْدِ مِن وَضْعِ أَهْلِ الغَيِّ والكَذِبِ
إلى أن قال:
هُو الإِمامُ الّذي رَوَّتْ رِوايَتَه ... وطَبَّقَ الأَرْضَ مِن طُلابِهِ النُّجُبِ
مُُهَذَّبُ القَولِ لا عَيٌّ ولَجْلَجَةٌ ... مُثَبَّتُ النَّقْلِ سامي القَصْدِ والحَسَبِ
ثَبْتٌ صَدُوقٌ خَبيرٌ حافِظٌ يَقِظٌ ... في النَّقْلِ أَصْدَقُ أَنْباءً مِن الكُتُبِ
كَالزُّهْرِ في حَسَبٍ والزَّهر في نَسَبٍ ... والنَّهْرِ في حَدَبِ والدَّهْرِ في رُتَبِ (?)
4 - نبذه للتعصب المذهبي: رغم تمذهب التاج السبكي على فقه الإمام الشافعي ـ رضي الله عنه ـ، واعتباره مذهبه هو المذهب الحق، وأنّ من عانده فقد عاند الحق، ورغم عظيم حبه للإمام الشافعي، وأتباعه من السادة العلماء الذين دفعه حبه لهم إلى جمع أشتاتهم وتتبع أخبارهم في كتاب خاص بأئمة الفقهاء الشافعية.