رغم كل ذلك إلا أنّي وجدت التاج السبكي رحمه الله تعالى، كان ينبذ التعصب المذهبي والجمود على أقوال الأئمة، بحيث تُجعَل الفروع المروية عن الأئمة أصولاً، بحيث يعادي بعضهم بعضا لأجلها ويُبدّع بعضهم الآخر بسببها، ويرى التاج السبكي أنّ هذا التعصب الممقوت لا يرضى به أحد ولو كان الأئمة الفقهاء أحياء لشددوا النكير على أمثال هؤلاء، ويقول: ((ومنهم من تأخذه في الفروع الحمية لبعض المذاهب ويركب الصعب والذلول في العصبية، وهذا من أسوأ أخلاقه، ولقد رأيت في طوائف المذاهب من يبالغ في التعصب بحيث يمتنع بعضهم من الصلاة خلف بعض إلى غير ذلك مما يُستَقبح ذكره، ويا ويح هؤلاء! أين هم من الله تعالى! ولو كان الشافعي وأبو حنيفة رحمهما الله تعالى حَيّين لشددوا النكير على هذه الطائفة)) (?).

ويضيف التاج السبكي أنّ على العلماء أن يتجاوزوا هذه الفروع التي للخلاف فيها مدخل وللاجتهاد فيها باب واسع، وكل مجتهد مأجور وإن أخطأ، وعليهم أن يشتغلوا بما هو أهم من ذلك؛ كالرد على أهل البدع والأهواء الذين يُفسِدون على الناس دينهم وعقائدهم، ويقول: ((وليت شعري لم لا تركوا أمر هذه الفروع التي العلماء فيها على قولين، من قائل: كل مجتهد مصيب، وقائل: المصيب واحد، ولكن المخطئ يؤجر، واشتغلوا بالرد على أهل البدع والأهواء. . . ثم قال: فقل لهؤلاء المتعصبين في الفروع وَيْحكم: ذروا التعصب، ودعوا عنكم هذه الأَهْويَة، ودافعوا عن دين الإسلام، وشَمّروا عن ساق الاجتهاد في حَسْمِ مادة من يسبّ الشيخين أبا بكر وعمر رضي الله ... عنهما)) (?).

ويَعيبُ التاج على هؤلاء الفقهاء الذين شغلوا أنفسهم بالفروع ونسوا أنّ بين ظهرانيهم يعيش أهل الذمة، ولا تجد فقيها يجالس ذمياً يبيّن له هذا الدين ويدعوه إليه فيقول: ((بل هؤلاء أهل الذمة في البلاد الإسلامية تتركونهم هَمَلاً. . . ولا نرى منكم فقيهاً يجلس مع ذمي ساعة واحدة، يبحث معه في أصول الدين. . . إلى أن قال: فيا أيها العلماء في مثل هذا فاجتهدوا، وتعصبوا، وأما تعصبكم في فروع الدين، وحملكم الناس على مذهب واحد؛ فهو الذي لا يقبله الله منكم ولا يحملكم عليه إلا محض التعصب والتحاسد)) (?).

طور بواسطة نورين ميديا © 2015