واجعل غناي في نفسي، وأمتعني بسمعي وبصري، واجعلهما الوارث منّي، ...
فقلت: يا نفس؛ انظري من أيّ بحر يغترف هذا الشيخ!! فأصبحت، فدخلت عليه، فأرهبت من هيبته، فقلت: كيف حالكم؟
فقال: إنّي أشكو إلى الله من برد الرضا والتسليم؛ كما تشكو من حرّ التدبير والاختيار!!
فقلت: أمّا شكواي من حرّهما؛ فذقته، وأما شكواك من بردهما؛ فلماذا؟!
قال: أخاف أن تشغلني حلاوتهما عن الله تعالى.
قلت: سمعتك اللّيلة تقول ... كذا؟! فتبسّم وقال: عوض ما تقول «سخّر لي خلقك» ، قل: «كن لي» ؛ تره إذا كان لك لا يفوتك شيء؛ فما هذه الجناية!؟! فحصل للشيخ أبي الحسن من هذا المجلس معارف وأنوار عظيمة.
(واجعل غناي في نفسي) ، لأنّ غنى النفس هو الغنى بالحقيقة، وهو المحمود النافع، بخلاف غنى المال؛ فإنّ النفس المنهمكة لا تغتني، بل كلّما حدث لها شيء من المال حدث لها طبع آخر، فإذا طلبت مائة دينار مثلا وحصّلتها توجّهت إلى جهات مصارف أخرى، كبنيان بيت وشراء أرقاء فتطلب ألف دينار، فإذا حصلتها، توجهت إلى مصارف أخرى وهكذا ... ولا يملأ جوف ابن آدم إلّا التراب.
(وأمتعني بسمعي وبصري) : الجارحتين المعروفتين، بأن تديم سلامتهما من الصمم والعمى، (واجعلهما الوارث منّي) ؛ أي: اجعلهما آخر ما يسلب منه الانتفاع من البدن.
وفي «الأذكار» للإمام النووي رحمه الله تعالى: قال العلماء: معنى «اجعلهما الوارث مني» ؛ أي: أبقهما صحيحين سليمين إلى أن أموت. وقيل:
المراد بقاؤهما وقوّتهما عند الكبر وضعف الأعضاء وباقي الحواس، أي: اجعلهما