فيه إلى تنمية وتطوير مفهوم "الإنسانية" بمعناه العالمي الشامل، لا إلى تنمية مفهوم "المواطنة" بمعناه الضيق المحدود بحدود المكان والزمان.
فالوطنية الضيقة، وتربية المواطن المحدود في قيمه وولائه بين حدود دولته أثمر كثيرا من الشرور التي نعاني منها الآن، فمشكلة الحرب والسلام التي يتوقف عليها مصير البشرية كله، تشتد وطأتها، ويزداد غليانها كل يوم، حتى وصلت إلى مرحلة تنذر بالخطر الحقيقي، وما ذلك إلا لأنها تدار بيد "مواطنين" يريدون تسخير خيرات العالم كله لصالح شخصياتهم أو مواطنيهم على حساب الآخرين.
وحتى بعد أن ظهرت نظرية استحالة الحروب النووية الساحقة الماحقة لكل شيء على وجه الأرض فقد بدأ الصراع يتحول من الحرب والقتال إلى صراع النظم والنماذج الاجتماعية والاقتصادية والعقائدية، وبمعنى آخر، فالصراع قد تحول من ميادين القتال إلى بيوت الناس، ومدارسهم وعقولهم.
ولا نتجاوز إذا قلنا إنه لا عاصم لنا اليوم في عصر العولمة والكوكبة و"الكنتكة" و"المكدنة" إلا بالتمسك بالمنهج الذي كرم الإنسان، وحفظ له شخصيته المستقلة حين قال -صلى الله عليه وسلم: "لا يكن أحدكم إمعة، يقول: إن أحسن الناس أحسنت، وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا ألا تظلموا".
إن الولاء للمواطن والوطنية الضيقة وليس "للإنسان" في كل مكان، هو الذي يعرض "السفينة العالمية" -إذا جاز هذا التشبيه- للخطر، فبعد ثورة الاتصالات وما ترتب عليها من تفجر معرفي أصبحت الكرة الأرضية كسفينة واحدة تتعرض لمخاطر جسيمة في عرض البحر. فيها من يشكو من التخمة، وفيها من يشكو من الجوع إلى حد الهلاك.
فيها من يعانون وفرة الإنتاج. فماذا يصنعون وكيف يختزنون الفائض الهائل من الحبوب واللحوم والزبد والجبن والخضر؟! وفيها المحاصرون الذين يموتون جوعا، ويرجون فتوى تجيز لهم أكل الميتة ولحوم البشر!
فيها الأغنياء الدائنون الذين يفرضون شروطهم، ويشرعون سياطهم، وفيها الفقراء المدينون الذين يخضعون لكل عمليات الابتزاز والاستغلال والظلم، فيها من يصنع سلاح الدمار ويبيعه ليزداد ثراء، وفيها من يشتري هذا السلاح ليقاتل به حتى الموت.
وهكذا.. تحدق الأخطار "بالسفينة العالمية" من كل جانب، بسبب الأنانية، والشره والظلم، والطائفية، والعنصرية، والاستغلال، بسبب الحضور القوي "للمواطن" والغياب المستمر "للإنسان".