الفقهي في مرحلة متأخرة، قد أنشأ آثارا ضارة في التصور الإسلامي، تبعته -بعد ذلك- آثار ضارة في الحياة الإسلامية كلها. إذ جعل يترسب في تصورات الناس أن معنى "العبادة" إنما هو خاص بالنوع الأول من النشاط الذي يسمى "فقه العبادات" بينما أخذ المعنى ينزوي رويدا رويدا عن النوع الثاني من النشاط الذي يتناوله "فقه المعاملات"1 وهو انحراف بالتصور الإسلامي لمفهوم العبادات لا شك فيه.

إن منهج التربية يجب أن يتناول كل النشاط الإنساني بالدراسة، ابتداء من الشعائر التعبدية كالصلاة والصيام والزكاة والحج إلى البرامج الدراسية في نظام الحكم ونظام الاقتصاد، والتشريعات الجنائية والمدنية، ونظام الأسرة، ونظام الإدارة، إلى المواد المختلفة في الرياضيات والطبيعة والكيماء، والعوم الإنسانية إلى آخره؛ يجب أن يتناول المنهج كل هذه المواد والبرامج على أساس أنها لا تهدف إلا إلى غاية واحدة، هي تحقيق معنى "العبادة" كما سبق إيضاحه.

إن غياب المناهج التربوية التي تقوم على هذا الأساس في معظم أقطار العالم العربي والإسلامي هو من أهم أسباب البلاء والتخلف الذي نعاني منه، وحتى المناهج التي تحاول على هذا الطريق يشوب بعضها الخلط، ويعوز بعضها الآخر الكثير من التخطيط الدقيق، ففي الأزهر مثلا، كنا -حتى في الستينيات من هذا القرن الميلادي- نتخصص مع بداية المرحلة الثانوية في أحد المذاهب الأربعة، حيث يقسم الطلاب على هذه المذاهب، فالبعض يدرس المذهب الحنفي، والبعض يدرس المذهب الشافعي والبعض يدرس المذهب المالكي، وهكذا كان الطلاب في هذه المرحلة من العمر، يتعلمون التعصب للمذاهب، والغوص في الخلافات والجزئيات والتفصيلات التي لا تجدى، وهم بعد لم يفهموا أصول ومقومات التصور الإسلامي العام!

إن أئمة المذاهب الأربعة لم يختلفوا على أصل من الأصول, ولا في أية مسألة ورد فيها نص من كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم، وإنما اختلفوا في الجزئيات والتفصيلات التي لا يضر معه الخلاف، وحتى أبو حنيفة -وهو المشهور بالقياس- قد بنى مذهبه, كما يقول ابن القيم في "إعلام الموقعين" على أن ضعيف الحديث عنده أولى من القياس والرأي"2.

فمنهج التربية لا يجب أن يركز على الخلافات، ولا على التفصيلات التي لا قيمة لها، وخاصة في مراحل التعليم قبل الجامعي، وإنما يهتم بالأصول، وبالمجرى العام لمنهج الله في حكم الحياة، ويترك هذا الترف العقلي والعلمي، وهو الخوض في الجزئيات والثانويات والاختلاف حولها، لخاصة المتخصصين في هذا الميدان.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015