الأساس الثالث من أسس بناء المجتمع، وعمارة الحياة وترقيتها فيه -بعد العلم والعدل- هو العمل. فباستثناء الميراث، جعل الإسلام العمل هو الوسيلة الوحيدة لنيل حق التملك: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 105] ، "ما أكل أحد طعاما قط خيرا من عمل يده" "رواه البخاري". وكره أن يلد المال المال، وإنما يلد المال الجهد، وعلى أساس هذه القاعدة حرم الإسلام الربا؛ لأن المرابي يمتص نتيجة جهد الآخرين وعرقهم بينما هو قاعد، وهذا يورث العداوة والبغضاء ويؤدي إلى هدم الحياة الاجتماعية النظيفة، ومن هنا -أيضا- جاءت كراهية الإسلام للترف وجعله مصدر الشر والفساد للفرد والجماعة معا. {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] .
العمل ومفهوم العبادة:
وليس المراد بالعمل على كل حال الانصراف عن أمور الدنيا وقضاياها والكدح فيها والاشتغال بأمور ثانوية في الدين، كالخلافات المذهبية والدروشة -كما يسميها الأستاذ فهمي هويدي- وبحث مدى إخلاص أو عدم إخلاص بعض المفكرين من أعلام المسلمين. وليس من العمل الجاد الذي تعمر به الحياة وترقى أن يترك كل ذي تخصص تخصصه في الطب والهندسة والعمارة والطبيعة والكيماء وعلوم الجهاد وعلوم الإدارة وعلوم ارتياد الفضاء، وكل العلوم التي نحن فقراء إلى النابغين فيها -إلى الاشتغال بأحكام التلاوة وعلامات الساعة والخلافات المذهبية1.
إن العمل الجاد الذي تعمر به الحياة وترقى، هو أن ينصر كل منا الإسلام في ميدان تخصصه بالإنجاز فيه والإنتاج والإبداع، يقول الشيخ محمد الغزالي: "من المستحيل إقامة مجتمع ناجح الرسالة إذا كان أصحابه جهالا بالدنيا عجزة عن الحياة. وإنه لفشل دفعنا ثمنه باهظا عندما خبنا في ميادين الحياة، وحسبنا أن مثوبة الله في كلمات تقال، ومظاهر تقام. إن الله لا يقبل تدينا يشينه هذا الشلل المستغرب، ولا أدري كيف نزعم الإيمان والجهاد ونحن نعاني من هذه الطفولة التي تجعل غيرنا يداوينا، ويمدنا بالسلاح إذا شاء"2.
وربما كان من أهم أسباب هذه المشكلة عدم فهم معنى "العبادة" في الإسلام، فالبعض لا يفهم من معنى العبادة إلا أنها الصلاة والصوم والزكاة والحج والصدقة وبعض الأذكار والأدعية، مع أن هذا جانب واحد فقط من جوانب العبادة، فالعبادة تشمل النشاط الإنساني كله؛ لأن نشاط الإنسان المسلم كله حركة واحدة متجه نحو تحقيق غاية وجوده، وغاية وجود الإنسان هي العبادة عن طريق القيام بحق الخلافة في الأرض، والقيام بحق الخلافة في الأرض يعني عمارتها وترقيتها وفق منهج الله.
وبهذا المعنى الشامل تصبح العبادة هي الصلة الدائمة بين المسلم وربه، وتصبح هي التربية الدائمة للإنسان كله، جسمه وعقله وضميره ووجدانه.
واجبات مناهج التربية:
وبهذا المعنى يصبح من الواجب على منهج التربية أن يتنازل عن تقسيم النشاط الإنساني إلى "عبادات" و"معاملات"، وهو التقسيم الذي ورد في التأليف