وقد كان نجم العلم فينا حياته ... فلما انقضت أيامه أفل النجم1
لقد كان الأصمعي يسحر الخاصة والعامة بعذب كلامه ونقاء أدبه، وكان معلم الرشيد وملقنه طاقات من الأدب، بل إنه كان بالنسبة إليه -بلغة عصرنا- مستشاره الثقافي، ولم يقف إعجاب التأبين بالأصمعي عند تلك الأقوال القيمة التي رثاه الشعراء بها، بل لقد ظلت طرائفه تتسرب إلى قلوب الناس وعقولهم حتى بعد وفاته بفترات طويلة من الزمان. إن أبا منصور الثعالبي يمدح الأمير الجليل أبا الفضل الميكالي، فلا يجد من المعاني التي تليق به إلا تشبيهه بفصاحة الأصمعي ورقة لفظه وذلك في قوله:
لك في المفاخر معجزات جمة ... أبدًا لغيرك في الورى لم تجمع
بحران: بحر في البلاغة شأنه ... شعر الوليد وحسن لفظ الأصمعي2
هذا والأصمعي لامع بين معاصريه من العلماء، مبرز عليهم في كثير من فنون المعرفة، وإذا قصر عن أحدهم في فن برز عليه وفاقه في فن آخر، وما من معاصر له لامع إلا وقد قرن اسم الأصمعي به في مجال المفاضلة، فمن الآراء التي وردت في هذا الشأن قول محمد بن يزيد المبرد: أبو زيد الأنصاري أحسن في النحو، وأبو عبيدة ألمع بالأنساب والأيام والأخبار، والأصمعي بحر في اللغة وكثرة الرواية3. ويقول الأخفش: ما رأيت أحدًا أعلم بالشعر من الأصمعي وخلف، فقيل له: أيهما أعلم؟ قال: الأصمعي.
وكان الأصمعي من تمكن العلم في اللغة والتفقه فيها وفهم الشعر بحيث لم يجاره في ذلك معاصر حسبما ذكر الأخفش قبل قليل، وحسبما ذكر المبرد قبل سطور. لقد كان الكسائي والأصمعي وغيرهما في مجلس الرشيد حيث كانت تكثر المناظرات وتثار القضايا اللغوية والنحوية والأدبية في أحيان كثيرة فقال الرشيد سائلًا: ما معنى بيت الراعي:
قتلوا ابن عفان الخليفة محرما ... ودعا فلم أر مثله مخذولا
فقال الكسائي: أحرم بالحج، فرد الأصمعي: والله ما كان أحرم بالحج ولا أراد الشاعر أنه أيضًا في شهر حرام، فيقال: أحرم إذا دخل في شهر حرام كما يقال أشهر إذا دخل