أن يخطئ في التفسير أو التأويل، وإذا اضطر إلى شيء من ذلك كان يردف، قائلًا: هكذا قال العرب، أو هكذا قال العلماء. بل إنه رفض أن يشرب الماء في آنية من الفضة لعلمه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك1. ولقد تواترت الأقوال عن استقامة عقيدته وصحة دينه، فما كان أيسر على مؤرخي زمانه أن يتهموا هذا بالزندقة وذاك بالمجوسية إلى غير ذلك من الانحرافات الاعتقادية التي كانت شائعة بالفعل في محيط البصرة، وأما الأصمعي وأبو عمرو بن العلاء ويونس بن حبيب والخليل بن أحمد فهناك ما يشبه الإجماع على صحة عقيدتهم، فقد قيل: أهل البصرة كانوا أهل أهواء إلا أربعة كانوا أصحاب سنة: أبو عمرو بن العلاء والخليل بن أحمد ويونس بن حبيب والأصمعي2.
ومع هذه الصفات المسلكية والخلقية الجليلة كان الأصمعي صاحب طرف ونكت ونوادر وأسمار يستمتع بها الخلفاء والوزراء والحجاب ويجزلون له العطاء عليها. فقد كان الرشيد على سبيل المثال -وهو يقضي الصيف بعيدًا عن بغداد في الرقة على شاطئ الفرات غير بعيد عن حلب- يطلب إلى رجاله في بغداد أن يحملوا إليه الأصمعي على البريد، فيسافر الرجل هذه المسافات الطويلة ليقضي مع الخليفة المصطاف أسبوعًا أو بعض أسبوع يسليه ويثقفه بما يسمعه من أخبار وأشعار ويزيل بعض ضجره، ثم يعيده إلى بغداد. وفي إحدى هذه السفرات طلب إليه الرشيد أن يمتحن جاريتين في الأدب والرواية والشعر والأخبار فأنجح واحدة منهما فوهبت له عشرة آلاف دينار، أما الرشيد فبعد أن استمع إلى بعض أسماره -وهي حفية أن يستمع إليها- زال عنه بعض ما كان يساوره من ضجر وأمر له بمائة ألف درهم3.
وله مع الرشيد قصة أخرى طريفة تدل على وفرة محصول الرجل من الأخبار التاريخية الدقيقة التي قلما يهتم المؤرخون بتدويها، يحكيها الأصمعي في مجال الإطراف والتسرية عن جليسه. فقد ذكر الأصمعي يومًا للرشيد في مجال السمر نهم سليمان بن عبد الملك وكيف كان يجلس للطعام وأمامه الخراف المشوية الملتهبة لخروجها في الوقت نفسه من تنانيرها، فيريد أخذ كلاها فتمنعه الحرارة من ذلك فيجعل يده على طرف جبته ويدخلها في جوف الخروف فيأخذ كلاه، فيعجب الرشيد بالحديث ويقول للأصمعي في تلطف وتعجب: قاتلك الله، ما أعلمك بأخبارهم!! أعلم أنه عرضت علي ذخائر بني أمية، فنظرت إلى ثياب مذهبة ثمينة وأكمامها ودكة بالدهن فلم أدر ما ذلك حتى حدثتني الحديث، ثم أمر الرشيد بأن