قيام نهضة عامة في دنيا المعرفة في ظلال الفكرة الإسلامية والمجتمع الذي آمن بها وهضمها وسعى إلى تعزيزها ونشرها، فكان لا بد لذلك من خلق حركتين أساسيتين هما: الحركة الدينية والحركة الثقافية.

فأما الحركة الدينية فقد كانت أوسع الحركات، إذ إنها تضم في عطفيها علوم القرآن والحديث والفقه من معاملات وعبادات وأحكام.

لقد بدأت هذه الحركة بالقرآن الكريم، ثم بالحديث الشريف جمعًا وفهمًا وشرحًا وتفسيرًا وتأويلًا. وقد كان على رأس هذه الحركة في أول أمرها عدد من علماء الصحابة الذين كانوا على مرتبة سامية من العلم والفطنة، كان أشهرهم عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس، وزيد بن ثابت وأم المؤمنين السيدة عائشة، وقد يضاف إليهم معاذ وأبو الدرداء، على أن أوفرهم علمًا فيما تكاد تجمع عليه الروايات علي وعبد الله بن عباس 1.

على أن الصحابة ينقسمون من حيث أقدارهم العلمية إلى طبقات متفاوتة، وقد ألفت في ذلك كتب كثيرة لتضع كل صحابي في طبقته أو درجته، ولعل أشهر الكتب التي اهتمت بالكتابة عن الصحابة وإيفاء كل واحد منهم قدره وإعطائه حقه هي "الطبقات الكبرى" لابن سعد و "أسد الغابة" وغيرها.

فمثلًا عند الكلام على ابن عباس فإنه يوصف بكونه أكثر الصحابة قدرة على التأويل والفتيا وما ورد في تفسير القرآن وأسباب النزول وحساب الفرائض والمغازي، كما أنه على إلمام بمعرفة الكتب الدينية الأخرى كالتوراة والإنجيل، وهو إلى ذلك عالم بأنساب العرب وأيامهم.

وإذا كانت هذه ثقافة عبد الله بن عباس، فإنه يقابله في الناحية الأخرى عبد الله بن عمر الذي يعتبر أكثر الصحابة قدرة على جمع الحديث ومعرفته وتمييزه وتصحيحه.

فإذا ما اتصلت الأمور بالقضاء فإن أكبر عقليتين قضائيتين بين الصحابة كانتا ممثلتين في عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وقد بلغ علي في ذلك مبلغًا لم يصل إليه أحد من الصحابة، حتى إنه كان حلال المشاكل مذلل المعضلات، الأمر الذي نتج عنه قول الحكمة المأثورة حين تتعقد الأمور: "قضية ولا أبا حسن لها"، وأبو حسن كنية الإمام علي، وكان يحلو للصحابة أن ينادوه بها تحببًا وتوقيرًا.

إن عليًّا يصف الصحابة ويحدد القدرة العلمية لكثير منهم، فيجعل قدرة عبد الله بن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015