أحمد، يونس بن حبيب، النضر بن شميل، هشام بن الكلبي، أبا عبيدة، الأصمعي، الهيثم بن عدي، المدائني، ابن الأعرابي، أبا عثمان الجاحظ، ابن قتيبة الدينوري، أبا حنيفة الدينوري، ابن أبي الدنيا، العباس المبرد، أبا العباس ثعلب، ابن طاهر طيفور، أبا بكر الصولي، أبا عبد الله المرزباني، أبا منصور الثعالبي.
كل هؤلاء وغيرهم كثيرون قدموا من عصارة أفكارهم وينابيع أفهامهم ما يقف المرء أمامه متعجبًا لقدرتهم، حانيًا هامته إجلالًا لمقامهم وإنتاجهم، فإن كثيرين منهم قد تراوحت مؤلفاتهم بين المائة والمائتين، هذا فضلًا عمن نيفت مؤلفاتهم على الثلاثمائة حسبما يتضح لنا عند الحديث عن كل منهم على حدة.
ولكنه قد يقفز إلى أذهان بعض القارئين المحدثين سؤال حول طاقات هؤلاء العلماء وحول أعداد الكتب للمؤلف الواحد، ومدى إمكانه أن يقدم كل هذا العلم الوفير الثمين القيم المتنوع، وهو سؤال حق في زمان مثل زماننا. إن الإجابة عن مثل هذا السؤال سهلة يسيرة إذا ما نظرنا إلى تاريخ القوم وحياتهم.
لقد كانت الفترة الزمنية التي عاشها هؤلاء الكبار فترة السمو الفكري، والتفجر العقلي، نتيجة الثقافة الإسلامية والعمل على تفريع علومها، فضلًا عن التقائها مع حضارات وإمكانات الأمم التي اعتنقت الإسلام وأخلصت له عقيدة وولاء، ومن ثم التفتت إلى اللغة العربية -لغة القرآن الكريم- فتوفرت على خدمتها والإبداع في نطاق موضوعاتها.
والسبب الثاني: هو إخلاص العلماء للعلم دون غيره، لم يشغل أحدهم بالسياسة ولا استهدف رئاسة ولا سعى إلى زعامة، ولا تقرب إلى العامة يمالئهم ويتقرب إليهم إلا بالقدر الذي يمكنه من رفع شأنهم وتقريب العلم إليهم. ومن ثم فقد كان القوم ناسكين في محراب العلم جعلوا منه صناعة وعبادة وحياة ودنيا وآخرة.
والسبب الثالث: أن القوم كانوا في مأمن من عدوان السلطان ومصادرة أعمالهم وأفكارهم، بل كان السلطان يستدنيهم ويكرمهم. وكان السلطان نفسه متعلمًا مهذبًا ملمًّا بأطراف من العلم، آخذًا منه بأسباب وألوان. إن مناقشات الرشيد والمأمون وغيرهما من خلفاء بني العباس ووزرائهم وقوادهم وقضاتهم مع هؤلاء العلماء توضح إلى أي مدى كان العالم محترمًا مبجلًا موسعًا عليه في رزقه مكرمًا بين الخاصة والعامة، فإذا لم يكن لدى العالم وقت لكي يقابل السلطان إليه بنفسه مجاملًا له مطمئنًّا عليه. وكثيرًا ما كان يفعل ذلك عضد الدولة بن بويه مع العالم الجليل، أبي عبد الله المرزباني. بل إن بعض هؤلاء العلماء -وهم قلة نادرة- كان ذكاؤهم المفرد قد أثر على تصرفاتهم في ندوات الخلفاء والملوك والوزراء، ومع ذلك فقد كانوا يلقون من التسامح والمجاملة ما لم يصدر