فإذا عرضنا لموسوعة أخرى لعالم آخر، وراعينا التسلسل الزمني، كان أحمد بن عبد الوهاب القرشي التيمي البكري المصري المعروف بالنويري لمولده في قرية نويرة ببني سويف في أسفل صعيد مصر، هو موضع الإشارة وصاحب الاهتمام، لقد عاش النويري بين سنتي 677-733هـ، ولعل أهم مصدر لحياة النويري ومنهج تفكيره هو مقدمة موسوعته العظيمة "نهاية الأرب في فنون العرب. إنه يذكر في إيجاز أنه اشتغل بالكتابة في ديوان الناصر محمد بن قلاوون، ثم تقلد بعض وظائف أخرى في الدولة، ولعل هذه الوظائف جميعًا وأشرفها هي قيادته إحدى فرق جيوش المسلمين التي تمركزت في كل أنحاء الإقليم الشمالي من المملكة المصرية الشامية، فقد ولي النويري قيادة الجيش المرابط في طرابلس لفترة غير قصيرة من الزمان، ثم ما لبث أن تخلى عن ذلك كله وتفرغ للكتابة التي كانت ثمرتها "نهاية الأرب" الذي كتبه في ثلاثين جزءًا والذي بلغ ما طبع منه ثمانية عشر جزءًا فقط حتى الآن.
والذي يتتبع النويري في "نهاية الأرب" يحس بروعة العمل الذي قام به هذا العالم الجليل والفارس النبيل، ويلمس عمق فكره وسعة اطلاعه لما حوى كتابه من موضوعات متعددة قد تبدو أحيانًا متباعدة، ولكنه يربط بينها في براعة ويسر، ويقدمها على صفحات كتابه فياضة متواكبة، فبينما يتحدث عن الموسيقى والغناء والزندقة والخمر نراه يتحدث عن الزهد والتعبد، وبينما يتحدث عن الشعر والنثر في مكان يتحدث عن الجيش، وأسلوب الحكم والحرب بحرًا وبرًّا في مكان آخر، وهكذا.
إن موسوعة النويري -شأن كل موسوعة- تضم ألوانًا من المعرفة، وأشتاتًا من الأخبار، وموضوعات من الأدب، وقضايا من التاريخ، ونماذج من أنظمة الحكم، ظواهر من الكون، كل ذلك في نطاق العلوم المتعارف عليها، غير أنه يبدو واضحًا أن النويري في منهجه وكثرة استطراده، وطريقة عرض شواهده متأثر كل التأثر بمنهج كل من الجاحظ في "كتاب الحيوان" وابن قتيبة في "عيون الأخبار"، ولعل منهج الجاحظ عنده أبين وأوضح، وهو يعترف بذلك في مقدمته للكتاب بقوله: "وما أوردت فيه إلا ما غلب على ظني أن النفوس تميل إليه، وأن الخواطر تشتمل عليه، ولقد تتبعت فيه آثار الفضلاء قبلي، وسلكت منهجهم فوصلت بحبالهم حبلي".
على أن موسوعة النويري في حقيقتها أثمن بكثير من تقويم صاحبها لها، ذلك أنها حوت الكثير الفريد من العلوم والنادر الخطير من أخبار التاريخ، وبخاصة ما أشار إليه المستشرق فازيلييف من أخبار خطيرة كأخبار صقلية كانت موضع اهتمام النويري نقلها عن مؤرخين قدماء لم تصل إلينا أخبارهم، مثل ابن الرقيق وغيره.