إن أول هؤلاء من الناحية التاريخية على الأقل جمال الدين أبو الفضل محمد بن علي المصري المشهور بابن منظور ولادة ووفاة 633-711هـ، لقد توفر ابن منظور على إنجاز أكبر وأغنى قاموس عرفته اللغة العربية حتى الآن ضمنه ثمانين ألف مادة ضمها عشرون مجلدًا بحروف المطبعة الحديثة، ولا يزال هذا القاموس الجليل في مقدمة ما يرد على الذهن من مراجع لغوية إذا احتاج المرء إلى الكشف عن كلمة غمضت عليه أو استبهم أمرها واستعصى فهمها، وإن الشمول الذي يتصف به ابن منظور في "لسان العرب" والصواب الذي يلازمه في كل مواده، والفيض الذي يترع دفتيه ليس وليد مصادفة أو حظ باسم، وإنما هو حصاد عمل موصول وثمرة كد لا يعرف الملل، ذلك أن الرجل ما ترك مصدرًا سابقًا إلا استشاره، ولا كتاب لغة ثبت الأصول إلا رجع إليه، وفي مقدمة ذلك "التهذيب" للأزهري، و"الصحاح" للجوهري وكتابا ابن سيده "المحكم" و "المخصص".
وإذا سأل سائل كيف أمكن لابن منظور وقد كان له عمل آخر هو الكتابة في ديوان الإنشاء أن يجد من فسحة وقته ما يسمح له بالقيام بهذا العمل الكبير؟، فإن الإجابة قد لا تخلو من طرافة إذا عرف أن "لسان العرب" لم يكن وحده العمل العلمي الذي أنجزه -على بسطته وعمقه وطوله - ابن منظور، بل لقد ترك الرجل عددًا آخر من الأعمال العلمية الجليلة واهتم باختصار المطولات من كتب الأدب كما سماها الأقدمون، والموسوعات كما نسميها نحن المحدثين، فاختصر الحيوان للجاحظ، وتاريخ دمشق لابن عساكر، والذخيرة في محاسن الجزيرة لابن بسام، والأغاني للأصبهاني، ومن الطريف أيضًا أن تلك الكتب التي اختصرها لم ينل من جوهرها أو يقلل من فرصة الانتفاع بها، بل قدمها ميسرة خالية مما لا يهتم له أكثر القراء من حشو وأسانيد وعنعنات، فابن منظور والأمر كذلك عبقري موهوب، والعبقرية تذلل أمام صاحبها كل أمر يصعب على غيره.