امتنعت عليه كل أسباب السعادة خارجه، ومن هنا كان برمه بالحياة في مصر، ولعل قرينة بعينها ترجح وجهة نظرنا هذه، وهي طلاقه زوجته الوفائية سالفة الذكر قبيل وفاته بقليل.
وربما كانت الزوجة البائسة صاحبة عذر في ذلك؛ لأن الرجل كان كثير الأسفار دائم البعد عن بيته الأمر الذي جعلها تضيق ذرعًا بأسفاره وأحواله.
كانت القاهرة على كل حال مقرًّا للمقري، استقر فيها، ومنها ينطلق سنة 1029 إلى القدس، ثم يعود لينطلق إلى اليمن سنة 1037 فيؤدي الفريضة ويملي حديث رسول الله فيها ومنها يذهب إلى المدينة المنورة حيث يملي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده وعلى مسمع منه، ويقول إنه قام بهذه الزيارات في تلك السنة سبع مرات. ويمضي بعض زمانه يدرس بالأزهر في القاهرة، ثم يعود فينطلق إلى القدس مرة ثانية سنة 1039 فيجلس لإملاء صحيح البخاري في صحن جامعها ويستمع إلى درسه خلق كثير في مقدمتهم العلماء قبل الطلاب، ولم يتفق لعالم من الواردين على دمشق ما اتفق للمقري من الحظوة، وإقبال الناس على دروسه، وكانت دروس الحديث في مطلع النهار عادة، وأما في الأمسيات فكانت مساجلات أدبية ومطارحات شعرية رائعة تجري بينه وبين علماء دمشق وأدبائها، وفي أمسيات أخرى كان يلقي محاضرات في الأدب، ويكثر من تردد أخبار الوزير لسان الدين بن الخطيب وأشعاره حتى افتتن العلماء بالوزير وخبره وشعره، وطلبوا من العالم الأديب المحدث الراوية المؤرخ أبي العباس أن يكتب كتابًا عن ابن الخطيب، فكان هذا الكتاب الذي بين أيدينا حسبما سوف نفصل بعد قليل.
لم تزد إقامة المقري في دمشق في زيارتها الأولى لها عام 1039 عن الأربعين يومًا، رحل منها في أوائل شوال، والقوم يبكون لفراقه عائدًا إلى مصر ثم عاد فزارها مرة ثانية في شعبان سنة 1040هـ، وكأن الرجل كان يتحرى أن يقضي شهر الصيام في دمشق. واستقبل في المرة الثانية بمثل ما استقبل به في المرة الأولى، ولما تركها قال شعرًا لطيفًا في وداعها.
وفي القاهرة قر قراره على العودة إلى دمشق ليقيم فيها إقامة دائمة وطلق زوجه الوفائية ولكن المنية عاجلته في جمادى الآخرة سنة 1041هـ، فدفن في مقبرة المجاورين في القاهرة.
ذلك ما كان من أمر حياة المقري ومستقره وارتحاله، وهو كما رأينا يمثل حلقة التقاء بين المشرق والمغرب، فهو تلمساني المولد والنشأة، وتلمسان تقع في غرب القطر الجزائري على مقربة من حدود القطر المراكشي الحالي، ونحن لا نعلم السنة التي ولد فيها أبو العباس على وجه التحديد، ولكن من الثابت أنه رحل إلى فاس مرتين، ثانيتهما كانت سنة 1013 وكان آنذاك موضعًا لتقدير أميرها حسبما بينا في سالف الحديث، ومعنى ذلك أنه كان مكتملًا أساب النضوج، ونعلم أيضًا أنه دخل مصر عام 1028، وتوفي فيها عام