وإن عدد الشعراء الذين خصهم لسان الدين في هذا القسم من الكتيبة تسعة وأربعون أي ما يقل قليلًا عن نصف عدد شعراء الكتاب كله، وهم أصحاب النصيب الأوفر من العناية، فأولي القسط الأكبر من الاحتفال بأخبارهم والاهتمام بشعرهم.
المهم أن هذه الفئة الأخيرة دون غيرها من الطبقات الأربع التي صنفها ابن الخطيب في الكتيبة، هي الصفوة الشاعرة التي يستمع الأديب بقراءة أشعارها، وهي الوجه الصادق أو جزء من الوجه الحقيقي للشعر والشعراء في القرن الثامن في الأندلس؛ لأن كتاب الكتيبة لا يشمل كل شعراء القرن الثامن وإنما من لقيهم المؤلف من الشعراء.
لقد كان لسان الدين بن الخطيب واضحًا الوضوح كله في خطبة كتابه أو بالأحرى في مقدمة كتابه حين حدد المنهج الذي سار عليه والمقصد الذي ذهب إليه.
ثالثًا: إن محتوى كتاب الكتيبة من شعر الشعراء، وأخبارهم أو بالأحرى من شعر كل شاعر وأخباره لا ينهض لكي يمثل وجبة كاملة مشبعة، وإنما هي شطائر تدفع الشعور بالجوع لبعض الوقت، ولكنها لا تشبع، ولعل ابن الخطيب -ولست جازمًا في ذلك ولكن مستنتجًا- قد كتبها من ذاكرته، فالرجل معروف بالإفاضة والعمق والإطالة والاستيفاء، وكتبه الأخرى الكثيرة الوفيرة التي يتكون بعضها من العديد من المجلدات شاهدنا على ذلك.
إن متوسط الترجمة لكل شاعر إلا في حالات قليلة زيادة ونقصًا -تشغل ما بين ثلاث صفحات إلى خمس. ولقد سبق أن رأينا شيئًا من ذلك في بعض كتب التراجم والطبقات، ككتاب المطرب مثلًا، ولكن شتان الفرق بين ابن دحية ولسان الدين، بل لقد رأينا شيئًا من ذلك في "المغرب" ولكن ابن سعيد عاد فقام بعملية تعويض أخرى للشعراء الذين لم يهتم بهم كثيرًا في المغرب فأضفى عليهم اهتمامًا كبيرًا في كتبه الأخرى حسبما أشرنا إلى ذلك في حينه.
رابعًا: يتبع ابن الخطيب في "الكتيبة الكامنة" طريقة سابقيه من كتاب التراجم والطبقات في الأندلس، وغيرهم من خلع صفحات المديح وألقاب الثناء على من ترجم لهم، ولكنه حين يعرض لأعدائه ينال منهم بشدة ويحمل عليهم ويقبح سيرتهم، وربما عمد إلى السخرية منهم والهزء بهم في نهج يجمع بين الهجاء والفكاهة، مثال ذلك قوله حين ترجم للقاضي النباهي. إنه التعريض به ابتداء من ذكر اسمه فيورد اسمه هكذا: القاضي علي بن عبد الله بن الحسين النباهي البني المدعو بجعسوس، والجعسوس -بضم الجيم- القصير الدميم اللئيم الخلق والخلق. ثم يبدأ لسان الدين ترجمته للرجل قائلًا: "أطروقة الزمن، التي تجل غرائبها عن الثمن، وقرد شارد من قرود اليمن، ذنبًا وأحداقًا، وفروة وأشداقًا، وإشارة واصطلاحًا، وخبثًا وسلاحًا، تشغل به الصبيان إذا بكت، وتتملح به الزهاد بعدما نسكت، وعن كل شيء