لاقتصار مداركها على علوم الأديان، وما يصدر عنها فعلى جهة الافتنان وسخاء الأفنان، وربما ندر في هذه الطبقة ما يعيي يد الحالب، ويحسب طلب الطالب، لكن الحكم للغالب"1.
وهكذا يتحرز ابن الخطيب ويحسب حساب النابهين من القضاة الذين خرجوا على هذه القاعدة وجاءوا بشعر معجب وبيان مطرب، ولقد تمثل هو نفسه لبعضهم وترجم لبعض المبدعين من الشعراء القضاة مثل القاضي أبي البركات محمد بن أبي بكر البلفيقي، وأورد لهم نماذج شعرية وصفها بالغرابة ووسمها بالعراقة والأصالة2.
وابن الخطيب حين يصف طائفة القضاة بأنهم أولو الخلال المرتضاة، يترجم لهم من هذا المنطلق، ولكنه يستثني واحدًا منهم هو القاضي النباهي عدوه اللدود الذي وصفه -أي وصف لسان الدين- بالملحد وأفتى بحرق كتبه، وكان تصرف النباهي غير صادر من حقيقة كونه قاضيًا بقدر ما كان صادرًا من موقع خصومة شخصية وعداوة سياسية، ولعل ابن الخطيب ذكره مع طائفة القضاة بحكم الوظيفة وليس بحكم الحقيقة، فلقد كان النباهي يشغل وظيفة "قاضي الجماعة" وهي نفسها وظيفة "قاضي القضاة" في المشرق، وهي تعادل اليوم منصب "وزير العدل" ولنا مع ابن الخطيب وابن النباهي في هذا المجال حديث قادم، وليس من شك في أن النباهي كان شاعرًا كبيرًا.
هذا وإن عدد القضاة الذين ترجم لهم صاحب "الكتيبة" بلغ عددهم أربعة وعشرين قاضيًا.
وأما الطبقة الرابعة والأخيرة من شعراء الكتيبة فهي "طبقة من خدم أبواب الأمراء من الكتاب والشعراء" وقد جرت العادة آنذاك أنه ما من كاتب أو شاعر إلا وكانت له صلة رسمية بسلطان أو أمير أو وزير أو نطاق العمل أو الاختصاص به مادحًا أو نديمًا، ويقدم لسان الدين لهذه الطبقة بقوله: وربما كانت هذه الطبقة متميزة الاستحسان، تمييز البركة بمطر النيسان ومظنة لدرر بحر اللسان، الممنون بها على عالم الإنسان، والله يتغمد الكل بالعفو والامتنان، ويبوئهم غرف الجنان بفضله وكرمه".
ونظن أن ابن الخطيب قد استثنى في دعائه الله لهم بالرحمة والعفو، الوزير ابن زمرك الذي كان تلميذ ابن الخطيب وعلى يديه تربى وبمساعيه ارتقى، ثم انقلب على أستاذه ودس عليه وخانه وشارك في إصدار الحكم عليه بالقتل، ولنا في ذلك حديث موجز بعد قليل